1

الخطأ الذي أدخل العراقيين إلى المتاهة من جديد

بقلم: فاروق يوسف

الجمعة ٢٥ نوفمبر ٢٠٢٢ – 02:00

خسر‭ ‬مقتدى‭ ‬الصدر‭ ‬فرصته‭ ‬الذهبية‭ ‬التي‭ ‬لن‭ ‬تتكرر‭ ‬في‭ ‬حكم‭ ‬العراق‭ ‬واختفى‭ ‬من‭ ‬المشهد‭ ‬السياسي‭ ‬العراقي‭ ‬بعدما‭ ‬كان‭ ‬الرقم‭ ‬الصعب‭ ‬في‭ ‬المعادلة‭ ‬السياسية‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬المراحل‭ ‬السابقة،‭ ‬وكان‭ ‬في‭ ‬إمكانه‭ ‬أن‭ ‬يلعب‭ ‬بميزان‭ ‬القوى‭ ‬بالطريقة‭ ‬التي‭ ‬تخدم‭ ‬مصالحه‭. ‬كان‭ ‬انسحابه‭ ‬من‭ ‬العملية‭ ‬السياسية‭ ‬إيذاناً‭ ‬بأفول‭ ‬نجمه‭ ‬الذي‭ ‬تأخر‭ ‬كثيراً‭. ‬لقد‭ ‬فعل‭ ‬أخيراً‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يفعله‭ ‬أحد‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬السياسي‭ ‬المعاصر‭. ‬ذلك‭ ‬لأنه‭ ‬انتقل‭ ‬بخفة‭ ‬منقطعة‭ ‬النظير‭ ‬من‭ ‬ضفة‭ ‬المنتصرين‭ ‬إلى‭ ‬ضفة‭ ‬الخاسرين‭ ‬ما‭ ‬صنع‭ ‬فراغاً‭ ‬ومهد‭ ‬للخاسرين‭ ‬أن‭ ‬يعبئوه‭ ‬بأتباعهم‭ ‬فترتفع‭ ‬أسهمهم‭ ‬ويعود‭ ‬الواقع‭ ‬السياسي‭ ‬برمته‭ ‬إلى‭ ‬أحضانهم‭. ‬كان‭ ‬يعد‭ ‬باستعادة‭ ‬هيبة‭ ‬الدولة‭ ‬وها‭ ‬هم‭ ‬خصومه‭ ‬اليوم‭ ‬يرصدون‭ ‬حركته‭ ‬وحركة‭ ‬أنصاره‭ ‬خشية‭ ‬أن‭ ‬يحدث‭ ‬شيء‭ ‬ما‭ ‬يهدد‭ ‬هيبة‭ ‬الدولة‭.‬

حين‭ ‬تخلى‭ ‬عن‭ ‬أصوات‭ ‬العراقيين‭ ‬التي‭ ‬وضعت‭ ‬تياره‭ ‬في‭ ‬أعلى‭ ‬قائمة‭ ‬المنتصرين‭ ‬في‭ ‬انتخابات‭ ‬عام‭ ‬2021،‭ ‬هل‭ ‬أراد‭ ‬الصدر‭ ‬أن‭ ‬ينفي‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭ ‬تهمة‭ ‬الفساد‭ ‬ويعفي‭ ‬نفسه‭ ‬من‭ ‬ذنب‭ ‬مصافحتهم‭ ‬وحماية‭ ‬مصالحهم؟‭ ‬ولكن‭ ‬تخليه‭ ‬عن‭ ‬أحلام‭ ‬العراقيين‭ ‬بتلك‭ ‬الطريقة‭ ‬غير‭ ‬المسؤولة‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬تصرفاً‭ ‬حكيماً‭. ‬كان‭ ‬نوعاً‭ ‬من‭ ‬اللعب‭ ‬الطفولي‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬له‭ ‬بالسياسة،‭ ‬حتى‭ ‬ولا‭ ‬بجانبها‭ ‬الذي‭ ‬ينطوي‭ ‬على‭ ‬التحايل‭ ‬واللعب‭ ‬على‭ ‬الوقت‭.‬

لن‭ ‬يكون‭ ‬خصوم‭ ‬الصدر‭ ‬معنيين‭ ‬بالنهاية‭ ‬الهزيلة‭ ‬والهزلية‭ ‬التي‭ ‬اختارها‭ ‬الصدر‭ ‬لنفسه‭ ‬ولتياره‭. ‬فهم‭ ‬بعدما‭ ‬استعادوا‭ ‬السلطة‭ ‬وعاد‭ ‬النظام‭ ‬إلى‭ ‬سابق‭ ‬عهده‭ ‬في‭ ‬توزيع‭ ‬المناصب‭ ‬الحكومية‭ ‬الكبرى‭ ‬وبيعها‭ ‬في‭ ‬مزاد‭ ‬أشبه‭ ‬بالعلني،‭ ‬سيعتبرونه‭ ‬جزءاً‭ ‬من‭ ‬الماضي،‭ ‬وهو‭ ‬الخطأ‭ ‬في‭ ‬الحساب‭ ‬الشيعي‭ ‬الذي‭ ‬لن‭ ‬يسمحوا‭ ‬بتكراره‭ ‬وسيكونون‭ ‬في‭ ‬كامل‭ ‬يقظتهم‭ ‬وهم‭ ‬يراقبون‭ ‬أي‭ ‬محاولة‭ ‬يسعى‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬إلى‭ ‬التمرد‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬منه‭ ‬لاستعادة‭ ‬بريقه،‭ ‬وإن‭ ‬كانوا‭ ‬على‭ ‬يقين‭ ‬من‭ ‬أنه‭ ‬لن‭ ‬يقوى‭ ‬على‭ ‬القيام‭ ‬باستعراضاته‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬بعد‭ ‬تشكيل‭ ‬حكومة‭ ‬باركها‭ ‬المجتمع‭ ‬الدولي‭ ‬كعادته‭ ‬مع‭ ‬الحكومات‭ ‬العراقية‭ ‬السابقة‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬الزعيم‭ ‬الذي‭ ‬فشل‭ ‬في‭ ‬إقناع‭ ‬أنصاره‭ ‬بالأسباب‭ ‬التي‭ ‬دعته‭ ‬إلى‭ ‬خذلانهم‭ ‬وانزلق‭ ‬بهم‭ ‬إلى‭ ‬هاوية‭ ‬اليأس‭ ‬والخيبة‭ ‬لن‭ ‬يكون‭ ‬في‭ ‬إمكانه‭ ‬أن‭ ‬يجمعهم‭ ‬في‭ ‬تظاهرات‭ ‬عبثية‭ ‬جديدة‭.‬

‭ ‬أنهى‭ ‬الصدر‭ ‬بنفسه‭ ‬زمن‭ ‬الفوضى‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تقض‭ ‬مضجع‭ ‬النظام‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬دائماً‭ ‬جزءاً‭ ‬منه‭. ‬مفارقة‭ ‬مؤلمة‭ ‬ستكون‭ ‬دائماً‭ ‬حاضرة‭ ‬في‭ ‬ذاكرة‭ ‬العراقيين‭ ‬وهم‭ ‬يستذكرون‭ ‬تقلبات‭ ‬مزاج‭ ‬الصدر‭ ‬التي‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تصدر‭ ‬عن‭ ‬عقل‭ ‬سياسي‭ ‬راجح‭.‬

ولكن‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬ليس‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يشكل‭ ‬لغزاً‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬تفكيكه‭ ‬لكي‭ ‬يتعرف‭ ‬الشعب‭ ‬العراقي‭ ‬إلى‭ ‬فصل‭ ‬جديد‭ ‬من‭ ‬فصول‭ ‬محنته‭ ‬التي‭ ‬بدأت‭ ‬قبل‭ ‬الاحتلال‭ ‬الأمريكي‭ ‬لتستمر‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬نهاية‭. ‬فحين‭ ‬كان‭ ‬الصدر‭ ‬يستعد‭ ‬لتشكيل‭ ‬حكومته‭ ‬كان‭ ‬يرفع‭ ‬شعارات‭ ‬وطنية،‭ ‬في‭ ‬مقدمها‭ ‬الإصلاح‭ ‬ومحاربة‭ ‬الفساد‭ ‬واستعادة‭ ‬هيبة‭ ‬الدولة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬إلغاء‭ ‬المليشيات‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬المليشيا‭ ‬التي‭ ‬يتزعمها‭ ‬منذ‭ ‬عام‭ ‬2003‭. ‬

ولكن‭ ‬تلك‭ ‬الشعارات‭ ‬كما‭ ‬تبين‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬كانت‭ ‬تخبئ‭ ‬تحتها‭ ‬رغبة‭ ‬شخصية‭ ‬في‭ ‬الثأر‭ ‬من‭ ‬نوري‭ ‬المالكي‭ ‬رئيس‭ ‬الوزراء‭ ‬الأسبق‭ ‬وحزبه‭ ‬الذي‭ ‬نجح‭ ‬في‭ ‬إقامة‭ ‬دولته‭ ‬العميقة‭. ‬كانت‭ ‬تلك‭ ‬الرغبة‭ ‬معلنة‭ ‬وصريحة‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬دفع‭ ‬إيران‭ ‬إلى‭ ‬التدخل‭ ‬المباشر‭ ‬حين‭ ‬شعرت‭ ‬بأن‭ ‬الأوضاع‭ ‬قد‭ ‬تخرج‭ ‬عن‭ ‬سيطرتها‭. ‬ولقد‭ ‬عبّر‭ ‬كاظم‭ ‬الحائري‭ ‬وهو‭ ‬المرجع‭ ‬المذهبي‭ ‬للصدر‭ ‬وأتباعه‭ ‬عن‭ ‬الموقف‭ ‬الإيراني‭ ‬حين‭ ‬دعاهم‭ ‬إلى‭ ‬اتباع‭ ‬خامنئي‭ ‬باعتباره‭ ‬مرجعاً‭ ‬دينياً‭ ‬بديلاً‭. ‬الخطأ‭ ‬الذي‭ ‬ارتكبه‭ ‬الصدر‭ ‬يكمن‭ ‬في‭ ‬أنه‭ ‬قدم‭ ‬ثأره‭ ‬الشخصي‭ ‬من‭ ‬المالكي‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يشكل‭ ‬برنامجاً‭ ‬سياسياً‭ ‬واقتصادياً‭ ‬للحكومة‭ ‬التي‭ ‬ينوي‭ ‬تشكيلها‭. ‬يومها‭ ‬شعرت‭ ‬إيران‭ ‬بأن‭ ‬مصالحها‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬صارت‭ ‬مهددة‭ ‬وصار‭ ‬لزاماً‭ ‬أن‭ ‬يعود‭ ‬الصدر‭ ‬وتياره‭ ‬إلى‭ ‬الحظيرة‭ ‬الإيرانية‭.‬

ما‭ ‬حدث‭ ‬بين‭ ‬الرجلين‭ (‬الصدر‭ ‬والمالكي‭) ‬لا‭ ‬يخلو‭ ‬من‭ ‬نكهة‭ ‬إيرانية‭. ‬وما‭ ‬جرى‭ ‬لهما‭ ‬لقنهما‭ ‬درساً‭ ‬لن‭ ‬ينسياه‭ ‬أبداً‭. ‬كان‭ ‬المالكي‭ ‬يوماً‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬توهم‭ ‬بأنه‭ ‬زعيم‭ ‬المقاومة‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬وحين‭ ‬خرج‭ ‬بملابس‭ ‬النوم‭ ‬حاملاً‭ ‬رشاشه‭ ‬كان‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يدرك‭ ‬أنه‭ ‬صار‭ ‬وحيداً،‭ ‬أما‭ ‬حين‭ ‬رغب‭ ‬الصدر‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬زعيماً‭ ‬للبيت‭ ‬الشيعي،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬الفشل‭ ‬في‭ ‬انتظاره‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬الميزان‭ ‬ملك‭ ‬يديه‭ ‬وهو‭ ‬لن‭ ‬يستطيع‭ ‬بسبب‭ ‬غلبته‭ ‬في‭ ‬الانتخابات‭ ‬أن‭ ‬يمحو‭ ‬الأحزاب‭ ‬الموالية‭ ‬لإيران‭.‬

تلك‭ ‬فكرة‭ ‬رومانسية‭ ‬كان‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬ينساها‭. ‬لم‭ ‬تطلب‭ ‬إيران‭ ‬من‭ ‬الصدر‭ ‬التراجع‭ ‬عن‭ ‬شعاراته‭ ‬ومطالبه‭ ‬بل‭ ‬أجبرته‭ ‬على‭ ‬القيام‭ ‬بذلك‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬فعله‭ ‬صاغراً‭. ‬وهو‭ ‬بذلك‭ ‬إنما‭ ‬يؤكد‭ ‬أن‭ ‬عصره‭ ‬انتهى‭. ‬فلو‭ ‬أنها‭ ‬سعت‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬وسيطاً‭ ‬بين‭ ‬الطرفين‭ (‬الصدر‭ ‬وخصومه‭) ‬لكان‭ ‬الصدر‭ ‬قد‭ ‬ضمن‭ ‬استمراره‭ ‬زعيماً‭ ‬للعملية‭ ‬السياسية‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬متوقعاً‭ ‬حدوثه‭ ‬من‭ ‬تفكك‭ ‬في‭ ‬بنية‭ ‬التحالف‭ ‬الذي‭ ‬أقامه‭ ‬خصومه‭ ‬ولكانت‭ ‬شعبيته‭ ‬قد‭ ‬تخطت‭ ‬حاجز‭ ‬التبعية،‭ ‬غير‭ ‬أنها‭ ‬لم‭ ‬تفعل‭ ‬سوى‭ ‬إسداء‭ ‬النصح‭ ‬لأتباعها‭ ‬بالاستمرار‭ ‬في‭ ‬التماسك‭ ‬والتخندق‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬ما‭ ‬سيفعله‭ ‬الصدر‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬إشاراتها‭. ‬ولقد‭ ‬تبيّن‭ ‬أن‭ ‬الصدر‭ ‬هو‭ ‬أضعف‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يقاوم‭ ‬الصمت‭ ‬الإيراني‭. ‬وحين‭ ‬انسحب‭ ‬الصدر‭ ‬مثقلاً‭ ‬بأخطائه‭ ‬فإنه‭ ‬لم‭ ‬يفعل‭ ‬ذلك‭ ‬إلا‭ ‬لشعوره‭ ‬الضاغط‭ ‬بفشله‭ ‬في‭ ‬الاختبار‭.‬

{ كاتب‭ ‬عراقي

التعليقات معطلة.