روسيا… من راسبوتين إلى بوتين

1

عبد الرحمن شلقم

عبد الرحمن شلقموزير خارجية ليبيا ومندوب السابق لدى الأمم المتحدة الأسبق، وهو حصل على ليسانس الصحافة عام 1973 من جامعة القاهرة،وشغل منصب رئيس تحرير صحيفة «الفجر الجديد»، ورئيس تحرير صحيفتَي «الأسبوع السياسي» و«الأسبوع الثقافي». كان أمين الإعلام وأمين الشؤون الخارجية في «مؤتمر الشعب العام». وسفير سابق لليبيا لدى إيطاليا. رئيس «الشركة الليبية – الإيطالية». مدير «الأكاديمية الليبية» في روما.

روسيا الدولة الأسطورة التي رافقت وجودها الحروب الطويلة التي لا تغيب. كل ما فيها من البشر والأرض والثروات والمياه، تغطيها وتغوص في أعماقها، هزَّت التاريخ بكل ما فيه من ألوان. الحروب التي لا تغيب إلا لكي تعود بقوة ودموية وشراسة أكبر وأخطر. منذ أكثر من خمسمائة يوم تخوض روسيا حرباً مع شقيقتها في الأرض والتاريخ والعقيدة، جمهورية أوكرانيا. للحرب بدايات وليس بداية واحدة. لقد كانت أوكرانيا عبر التاريخ الطويل، يداً في جسم الإمبراطورية الروسية. روسيا الأوروبية الآسيوية التي تمتد فوق أكبر رقعة جغرافية على وجه الأرض، كانت مسكونة بالقوة والعظمة والأساطير، ولكنها كانت الغنيمة المبتغاة من كل الأقوياء في الغرب والشرق.

الحرب التي تدور اليوم بين من كانا جارين شقيقين، لهما جذور ضاربة في الماضي القديم والقريب. التحالف الغربي الداعم لأوكرانيا بالمال والسلاح في حربها مع روسيا، ليس مجرد تدافع قوى تتحرك بحسابات استراتيجية، بل هي مواجهة بين تكويني وضع التاريخ والجغرافيا، بينهما خنادق حفرها الناس والزمن قبل أن تحفرها الجيوش والساسة.

قصر الكرملين الذي شهد حشداً من الزعماء الذين قادوا روسيا، يُعِبر عن مسام تكوين القوة وعضلاتها وأنفاسها. قلاع وأبراج وقاعات ولوحات وسلالم وممرات، تنطق بالعظمة وتومض بالقوة. في الكثير من عواصم الدول، تعلن قصور السلطة عن قوة الدولة وتعالي الحاكم. لكن في قصر الكرملين، حواس تكاد تلامسك.

الأسطورة والمؤامرة والعنف والعدو، لا تغيب عن الإمبراطورية الروسية. الشخصية الغريبة العجيبة التي ظهرت في روسيا في مطلع القرن العشرين (راسبوتين). في البداية عرف بين الناس، بأنه شخصية لها قدرات روحية خارقة، تتمكن من أن تشفي المرضى، وكذلك لها القدر على التنبؤ بالمستقبل. في ذلك الوقت كان يحكم روسيا القيصر نيكولاي رومانوف الثاني. طاف راسبوتين في أماكن مختلفة بالبلاد، كان من القريبين لرجال الدين المسيحي الأرثوذكسي. مارس كل الرذائل، ولم يتردد عن فعلها أين ما حل، لكنه امتلك قوة التلون وتقديم نفسه على أنه من أهل الخوارق السحرية. كان للقيصر ابن ذكر واحد، وهو أمله الأكبر في خلافته، إذ كانت ذريته كلها من البنات. أصيب الابن الأمير ألكسي بمرض سيولة الدم، وعجز كل الأطباء عن علاجه. نُصح القيصر بإحضار راسبوتين لعلاج ابنه الأمير ألكسي. وفعلاً نجح في ذلك. صار هذا الراسبوتين العجيب القوة الحاكمة الحقيقية في القصر، حيث سيطر على أم الأمير الصغير، القيصرة ألكساندرا. اتسعت حلقة قوته، وصار المشارك في كل القرارات، إن لم يكن قد تفرد باتخاذها. جرت محاولات من طرف أقرباء القيصر وحاشيته لاغتيال راسبوتين، لكنها فشلت.

عمُّ القيصر نصح ابن أخيه القيصر نيكولاي بالهجوم على اليابان لضمها إلى إمبراطوريته. القاعدة في روسيا القيصرية كانت تقوم على أن القيصر الذي لا يتوسع في أراضي غيره، ويضمها إلى ملكه، فلن يعد من القياصرة العظماء. راسبوتين حذر القيصر من الهجوم على اليابان، لأنه سيخسر الحرب، وفعلاً ذاك ما حدث. نبوءة أخرى ساقها راسبوتين للقيصر، وهو أنه وأسرته سيقتلون جميعاً، وفعلاً ذاك ما حدث بعد الثورة البلشفية.

الأساطير، حكايات تروى وتضاف إلى تضاريس وحفر الماضي المضطرب، لكنها تحرك تراب ما كان، وتكشف ما تحته من تراكمات عاشها الناس شهداً وصاباً.

هكذا كانت روسيا الكبيرة. نابليون بونابرت، اعتقد جازماً أن ما بشرت به الثورة الفرنسية من أفكار، لن يعم الدنيا ما لم يضم روسيا إلى إمبراطوريته الأوروبية الواسعة. اندفع نابليون نحو روسيا بجيشه الجرار، وصل إلى أبواب موسكو، لكن مقاومة الروس وإخلاص الثلج ردَّاه مهزوماً. وفي النصف الأول من القرن الماضي، حرك أدولف هتلر جيشه الأقوى آنذاك في العالم نحو روسيا، وبسرعة جنونية توغل في أراضيها، حتى لاحت له أبراج الكرملين. لكنه تجرع هزيمة النهاية، واندفع الجيش السوفياتي إلى عقر حفرته في برلين. روسيا لا تخلو من راسبوتين الأسطورة، سواء لبس بدلة مدنية أو عسكرية تعلوها النجوم والأوسمة.

جوزيف ستالين الذي قاد الاتحاد السوفياتي بعد رحيل لينين، هو أسطورة أخرى، حكم البلاد بدم الخوف. قتل أقرب الناس له في الحزب والجيش، وأبعد المثقفين والعلماء إلى جليد سيبيريا، وفرض سياسة تقشف أدت إلى موت الملايين جوعاً ومرضاً، لكنه حقق نصراً على ألمانيا النازية التي دمرت روسيا.

بعد ستالين تابع العالم أسطورة من طراز آخر تربعت في الكرملين، نيكيتا خرتشوف، الفلاح المندفع الذي لا يقيده بروتوكول، ولا يعتد بضوابط الدبلوماسية، أو حتى اللباقة القيادية، لكنه خاض الحرب الباردة مع الغرب في كوبا وشرق أوروبا. ليونيد بريجنيف الزعيم الذي يحمل القوة الصلبة واللين السياسي المراوغ، كان الرجل والزعيم المضاف إلى حبات مسبحة الأساطير السياسية الروسية. راوغ وهدد وحارب، لكن حفرة أفغانستان كانت خندق الدم الذي حذر منه راسبوتين قيصره نيكولاي رومانوف الثاني. شاخ الكيان الروسي الشيوعي الكبير، الذي ساد يوماً على جمهوريات في آسيا، وألحق به دولاً في شرق أوروبا، وأقام له درعاً عسكرية ضاربة في حلف وارسو، وأدَّب من حاول النشوز من دولها. بعد رحيل ليونيد بريجينيف الأوكراني عن الكرملين، صعد العجائز من بقايا القيادات التاريخية للحزب الشيوعي، إلى أمانة الحزب، وغاصت البلاد في وحل الشيخوخة وحلّ الضعف. قادم يعد شاباً بمقاييس سن القيادة في روسيا الشيوعية غورباتشوف، جاء متحمساً لتطوير امبراطورية ورثها عن حزبيين متآمرين عجائز، فسقط وأسقطها.

الزعيم الروسي فلاديمير بوتين. دخل إلى دنيا الأسطورة والعظمة والقوة «الكرملين»، وفي رأسه حمولة زمن، وأساطير مغلفة بنواقيس الماضي بكل ما فيها من انكسارات وانتصارات. لا يقبل أن يكون غورباتشوف الثاني أو يلتسين الثاني. طباخه بريغوجين الذي رفعه إلى رتبة القائد العسكري المقاتل على حدود الوطن وفي القارات البعيدة، هل يكون هو راسبوتين الأسطورة السحرية الجديدة، أم فقاعة صنعها بوتين على عينه، لتنفجر في كف يده؟

فلاديمير بوتين، رجل الأمن والسياسة المسكون بتكوين روسيا، وتاريخ عظمتها، سيرافق السنوات المقبلة وترافقه، والعالم كله سيكتم أنفاسه ليرى ويسمع، بل ليعيش ماذا سيكتب في الصفحة الأخيرة من رحلة «راس بوتين» القرن الواحد والعشرين.

التعليقات معطلة.