مصطفى الكاظميرئيس مجلس الوزراء العراقي السابق
صباح التاسع من أبريل (نيسان) من العام 2020، وفي طريقي إلى قصر السلام، لتسلّم كتاب تكليفي برئاسة الحكومة الاتحادية العراقية، من قِبل فخامة الرئيس برهم صالح، ومشاركة الإخوة المسؤولين، حضر في ذهني حجم التحديات التي يعيشها العراق، وصعوبة الظروف التي يمرّ بها الوطن على مختلف الصُّعد، وتعقيدات المرحلة وحساسيتها على المستوى السياسي بشكلٍ خاص. التنافر الشديد بين القوى السياسيّة، وتعاظم حالات الفساد وتجذّره في مؤسسات الدولة، وتردّي الخدمات، وغياب الرؤية الصحيحة لبناء الدولة وإصلاحها، لم تكن بغائبةٍ عنّي؛ التقارير اليوميّة والمتابعة الدقيقة رسمت صورة متكاملة للمشهد بتفاصيله، على المستويين الداخلي والخارجي.
كذلك، كانت «تظاهرات تشرين» مستمرة في قلب العاصمة بغداد وبعض المدن الأخرى. لم يكن هناك أي مؤشرٍ – أو مؤشراتٍ – على قُرب انتهائها، ولم تلُح في الأفق أي بادرة حلٍّ لهذه الأزمة الخطرة بين المتظاهرين والحكومة الاتحادية برئاسة السيد عادل عبد المهدي.
وما زاد من حدّة الأزمات المتراكمة، والتي تفجّرت في أكتوبر (تشرين الأول) 2019، ورفع من نسبة خطورتها، بروز تحديات عدّة؛ أبرزها جائحة «كورونا»، وفراغ خزينة الدولة من أي سيولةٍ نقديّة، وتمدّد سلاح الميليشيات وتهديده أمن الدولة وسُمعتها. للأسف، فإن العراق كان يفتقد البنية التحتيّة الصحيّة لمواجهة الحالات الطارئة، فكيف في مواجهة وباء أربك العالم بأَسره؟ أما الاقتصاد فقد وصل إلى مستوياتٍ متدنية مع تدهور أسعار النفط عالميّاً، بحيث تعذّر دفع رواتب الموظفين، في تحدٍّ لم يسبق أن واجهه العراق من قبل. أما السلاح غير المنضبط، المرعيّ من قِبل الميليشيات المسلّحة، فقد أصبح أداة ابتزازٍ للدولة، ومظلّةً حاميةً لمشاريع مالية واقتصادية تضرّ الاقتصاد الوطني، كما استُخدم في سياق تصفية حساباتٍ لا يتحمل العراق كلفتها، ما أضرّ سمعة البلاد، وفرض أولويّة تحسين صورتها إقليميّاً ودوليّاً.
بركان التحديات بدأ النشاط، وأصبح قابلاً للانفجار في أية لحظة. العمل والوصول إلى نتائج ملموسة بات ضروريّاً؛ لأن الفشل في المعالجة نتائجه كارثية على العراق؛ الوطن والدولة ومؤسساتها، والمواطن ومستقبله. هذا التشخيص، ومع البحث عن الحلول يفرض مراجعةً تاريخية، والعودة إلى أبريل (نيسان) 2003، مع تولّي السياسيين الحكم بعد سقوط نظام البعث. هذا التوجّه أعاق حركة بناء الدولة ومؤسساتها؛ فالدول التي يُراد لها إعادة بناءٍ على أسسٍ صحيحة، تعتمد في منهجها على الإداريين الناجحين، وليس على السياسيين.
وقد سمعتُ مراراً من بعض القيادات السياسية قولهم إن «الكاظمي ليس بالسياسي، وليس من قماشة المسؤولين السياسيين». كنت أردّ على ذلك بالقول – مفتخراً – إنني «لست سياسياً»، بالمعنى الحرفي لصفة السياسي. كرّرتها – غير مرة – أنا إداريّ وأنتمي في تفكيري إلى المنهج الوطني العربي الليبرالي، مستقلّاً عن الانتماءات وبعيداً عن الأحزاب ومتحاشياً أيّة تكتلات.
في العراق، باستطاعة اللعبة السياسية وعمليتها تشكيل حكومة ودعمها، وباستطاعتها – أيضاً – أن تصنع نظاماً يحكم لسنواتٍ طويلة، لكنها لن تكون قادرة على بناء دولة مؤسسات وشرائح منتِجة تشكّل مجتمعاً مغايراً عن المجتمع السائد. فالتطورات الاقتصاديّة والمدنيّة التي شهدتها الدول الناجحة، قادها زعماء يحملون الرؤى الإدارية أكثر من الرؤى السياسية، مثل سنغافورة أو ألمانيا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية. فهي نموذج رائع في مجال بناء الدولة، وتشبه إلى حدٍّ كبيرٍ ما عاناه العراق بعد حروب صدام التدميرية. لم تستفِد الطبقة السياسية التي جاءت بعد عام 2003، من تلك التجربة أو غيرها، إذ سلكت طريق السياسة وتركت منهج الإدارة.
حاولت كثيراً أن أبيّن للأطراف والقوى السياسية الصفة الإدارية لرئيس الوزراء، لكنهم صبغوا التعامل بالمنطق السياسي. فرئاسة الوزراء يجب أن تكون منصباً إداريّاً بالدرجة الأولى، لكن المناخ السائد كان – وما زال – يرفض التخلّي عن نظرته السياسية لهذا المنصب. رغم ذلك قبلتُ التحدي، وعملتُ على تقديم نموذجٍ إداريٍّ جديدٍ في البلاد.
على خطٍّ موازٍ، فإن العالم اليوم، بتشكّلاته وتكتلاته، قائمٌ على فنون الإدارة، والأقوى مَن يدير بلاده، وليس مَن يحكمها. نعم، لقد تغيّر العالم كثيراً، مع النقلات النوعية ذات المسافات الفلكية في التطور التقني والمعلوماتي والمفاهيمي. عالم الأمس كان غارقاً في السياسة، وعالم اليوم قد تحرر من تلك العُقد، وبدأ الاعتماد على جوانب أخرى تضمن التقدم والتطور، وهذا ما نشاهده في عددٍ من الدول الآسيوية الشرقيّة ومنطقة الخليج العربي. وإذا تحدثنا عن الدول الأوروبية، فقد كانت لقرونٍ طويلة أسيرة الفكرة السياسية في الحكم، وبعد تخلصها من هذا الطوق الضيق، انتقلت للاعتماد على مبدأ «الإدارة قبل السياسة».
وبالعودة إلى العراق، فبمقدوره أن يكون نموذجاً متقدماً في مشاريع بناء الدولة، لو تخلصت الطبقة السياسية من عُقدة «الحُكم السياسي»، واعتمادها منهج «الحُكم الإداري». وباعتقادي، فإن العملية ليست مستحيلة أو بالغة الصعوبة، فنحن نحتاج إلى ثقافة مجتمعية تقودها نُخبٌ بهذا الاتجاه. عندها، يصل الناخب العراقي إلى قناعة التحوّل من السياسة أولاً إلى الإدارة أولاً؛ وبذلك نتجاوز أكبر العقبات، ونكون على المسار الصحيح في إحداث تغييرات جوهرية في المقاربة والتعامل والرؤى المستقبلية.
ورغم التشاؤم المفرط بمستقبل العراق، كُلّي أملٌ وثقة بأن العراقيين قادرون على إعادة صياغة مفاهيمهم، وإنتاج واقعٍ جديد يحمل الهمّ الإداري قبل السياسي، ويعمل على حُكم الإدارة كنظام تعتمده الدولة.
*رئيس مجلس الوزراء العراقي السابق