مَن يدمِّر… يعمِّر

1

فؤاد مطر

فؤاد مطرأحد كتّاب الرأي والتحليل السياسي في «الشرق الأوسط» ومجلة «المجلة» منذ العام 1990 وقبلها عمل صحافياً وكاتباً في «النهار» اللبنانية و«الأهرام». نشر مجلة «التضامن» في لندن وله 34 مؤلفاً حول مصر والسودان والعراق والسعودية من بينها عملان موسوعيان توثيقيان هما «لبنان اللعبة واللاعبون والمتلاعبون» و«موسوعة حرب الخليج». وثَّق سيرته الذاتية في كتاب «هذا نصيبي من الدنيا». وكتب السيرة الذاتية للرئيس صدَّام حسين والدكتور جورج حبش.

الآن وفيما المجتمع الدولي لا يضع حداً لجنون حرب «إسرائيل نتنياهو» حليفه الأكثر شغفاً بين الليكوديين في مواصلة القتل والتدمير من بعض جنرالات الجيش المهمومين الذين وجدوا أنفسهم متورطين بعملية حربية منقوصة المهابة، وتفتقد إلى أخلاقيات المحارب وأصول الحروب وقواعدها، فإن الكلام حول تعمير ما دمره الجيش الإسرائيلي بدأ يأخذ مسار الاهتمام الجدي، وذلك على قاعدة «مَن يدمِّر… يعمِّر».

في قطاع غزة منذ ثلاثة أشهر بدأ الجيش الإسرائيلي وبكل أنواع أسلحته، وبالذات السلاح الجوي، عمليات يومية من التدمير، لا تستهدف ثكنات عسكرية أو مواقع تتحصن فيها قوات بالمقابل، وإنما الأبنية بمَن في داخلها نياماً، ومساجد وكنائس بمن فيها من متعبدين، ومستشفيات على أسِرَّتها مرضى، ومدارس وأبراج سكنية ومراكز تربوية. لذا يجوز تصنيف مثل هذه الحرب بأنها منقوصة الأصول والشجاعة وأخلاقيات الاحتراب نفَّذها جيش مزود من بعض الدول الكبرى، وبسخاء، كما نوع الضريبة نحو دولة أُنشئت بفعل وعد منقوص الإجماع الدولي (وعد بلفور. 2 نوفمبر/ تشرين الثاني 1917). والقول إن الوعد مجرد صفقة من جانب بريطانيا المحتلة فلسطين إلى الحركة الصهيونية التي أدت مهمة إنشاء كيان أخذ صفة احتلالية وما زال، يوجب على دول العالم اتخاذ موقف من هذا الفعل الأشبه بعملية عقارية، حيث أُعطيت الصهيونية خلسةً أرض وطن سكانه عرب ليتم بفعل بعض الدول الكبرى جمْع يهود من دول كثيرة واستيطانهم في هذه الأرض، ويتم إطلاق تسمية دولة إسرائيل عوض الوطن الفلسطيني الذي تقتضي الأصول على مَن كان يحتله تسليمه إلى أصحاب الحق وليس تنفيذاً لصفقة رمزاها آرثر بريطاني بروتستاني وآرثر صهيوني يهودي. هذا ما حدث في تاريخ الدول التي احتلت أوطان شعوبها الأصليين، ثم عندما انتهى الاحتلال بالتراضي، أو بفعل انتفاضات وطنية، كما الذي حدث في جنوب أفريقيا، طوى أصحاب الحق صفحة المحتل. وهذا يعني أن الكيان الصهيوني أقيم بموجب صفقة – هدية مشبوهة أخذت بفعل السكوت الدولي في حينه عليها الصفة القانونية المنقوصة الإجماع بعد عام 1948، حيث وجدت الحركة مقعداً لها بصفة دولة في الأمم المتحدة حاضنة دول العالم.

هذا الفعل الذي تولاه آرثر بريطانيا تبليغاً لآرثر الصهيوني في الثاني من نوفمبر (تشرين الثاني) 1917 روى تربته بمثيل له يوم 8 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 رئيس الولايات المتحدة جو بايدن الذي كان سخياً بمثل سخاء بريطانيا في الزمن البلفوري، حيث إنه لمجرد حدوث عملية «حماس» وما أحدثته على الفور من صدمات صاعقة لدى إسرائيل نتنياهو، حكومةً وجيشاً، حتى طار من واشنطن إلى تل أبيب ليقول للإسرائيليين ما تمناه إنه وإن كان ليس يهودياً فإنه صهيوني وهو موقف جعل نتنياهو وجنرالات جيشه المكتوين بكل ما حدث في اليوم الحمساوي، يتصرفون على أساس أنه ما دام هذا موقف رئيس الدولة المرجعية لهم فليكن الرد على الفعل الحمساوي حرباً تبدأ ومن دون الانشغال بنهايتها، ثم يزداد هذا الهوس عند نتنياهو الذي قوضت عملية «حماس» أحلامه وتسببت في جرح غائر في نفسيته، فبات يرى بعدما تقاطر كبار القوم من البريطاني إلى الألماني إلى الفرنسي… إلى آخرين أنه ما دام مفوضاً وإن من خلال تصريحات حافلة بالتكاذب من جانب هؤلاء فليحوِّل الثأر من الفعل الحمساوي الجريء إلى حرب لا تنتهي ولا التزام فيها بما هو أخلاقي وإنساني. ولقد حقق مبتغاه. ألوف من البنيان تحولت إلى ركام. وعشرات الألوف من السكان رجالاً ونساءً وأطفالاً قضوا تحت أنقاض العمارات التي جرى تدميرها. والذين لم يصابوا أو يختنقوا أو تفيض أرواحهم وبالذات من الأطفال والمسنين والرضع باتوا بمثل وجبة يومية لجنون الإبادة التي يتابعها المجتمع الدولي صوتاً وصورةً.

وعندما وصلت نزوة التهجير وحاجة مئات الألوف إلى الطعام والماء والدواء إلى مرحلة متقدمة من الإبادة، فإن الأذرع الدولية من كبير القوم الأميركي إلى البريطاني والفرنسي والألماني أطلقوا في ما يخص الغذاء والدواء من المواقف الكثيرة النعومة التي لا تخدش التوحش الصهيوني الذي لا يحسب الحساب إلى ما ستكون عليه حال إسرائيل من جانب جمهور فلسطين المسترخية في رام الله في حال وجد نفسه ينتفض هو الآخر، كما ستكون عليه بعد عقديْن من الزمن يكون الجيل الناجي من الإبادة مشحوناً بغضب من سيأثر، وعلى نحو الجيل اليهودي الذي نجا من المحرقة النازية فوظف محنته مكاسب مالية وسياسية من ألمانيا ما بعد زوال الهتلرية.

لكل حرب أو ظالم أو مستبد نهاية، وفي التاريخ ماضياً وحاضراً ما يؤكد هذه الفرضية. المهم الآن أين سيكون مأوى مئات الألوف ومن سيؤمِّن الدواء والعلاج والغذاء بعد أن يقرر العقل الصهيوني الذي أصابته في العمق جرثومة الإبادة وضع نهاية للحرب ورمزها نتنياهو ومَن معه، مقترفاً بما فعل وزراً ولا كل الذنوب.

إن منطق الأمور يرى أن مَن دمر الحجر وأزهق أرواح عشرات الألوف وشتت مئات الألوف بفعل مباشر ومتوحش، هو مَن عليه واجب التعمير بدءاً بالفاعل يليه المساند والمؤيد. وما نقصده بكلامنا هنا إن التعمير من الطبيعي أن تتشارك في جمع أرقام مبالغة أميركا الحاضر وتلك الجديدة بعد بضعة أسابيع، وبريطانيا التي كما قدمت الوعد هديةً ماضياً تشارك في التعمير حاضراً. ولمجرد أن يتقدم التعقل لدى إسرائيل نتنياهو على الجنون والفعل المتوحش. وما يقال عن وجوب مشاركة ألمانيا في التعمير يقال عن فرنسا. دول أربع كبرى باركت من خلال مواقفها المتعاطفة التدمير والإبادة مسيئة بفعلها هذا إلى أجيال من الأميركيين والبريطانيين والفرنسيين والألمان عندما ستتأمل هذه الأجيال بالمواقف غير الإنسانية وغير الكريمة لمصلحة دولة مارست ولا تزال التوحش في أعلى درجاته.

وتبقى الجمهورية الإسلامية في إيران التي لم تمارس فعل التدمير والإبادة على نحو ما حدث، إلا أن ما جرى ربما كان لن يحدث لولا واقعة يوم السابع من أكتوبر (تشرين الثاني) 2023، ومن جانب الذراع الفلسطينية الأكثر فاعلية «حماس» ونظيرتها «الجهاد الإسلامي».

ومن هنا فإن دور إيران في التعمير واجب وإن هي لم تدمِّر. وأما التعمير من جانب الدول العربية المقتدرة ودول الخليج فإنه مرجأ إلى حين قيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية.

التعليقات معطلة.