حكومة لبنان الجديدة بين مخاطر المكابرة وفرص التوافق

2

إياد أبو شقرا

صحافي وباحث لبناني، تلقى تعليمه العالي في الجامعة الأميركية في بيروت (لبنان)، وجامعة لندن (بريطانيا). عمل مع «الشرق الأوسط» منذ أواخر عقد السبعينات وحتى اليوم، وتدرج في عدد من المواقع والمسؤوليات؛ بينها كبير المحررين، ومدير التحرير، ورئيس وحدة الأبحاث، وسكرتير هيئة التحرير.

إزاء الاعتراض المرير من «الثنائي الشيعي» في لبنان على تكليف الدكتور نوّاف سلام بتشكيل الحكومة المقبلة، بادر سلام إلى طمأنته بالقول إنه ينطلق من خياري: «التفاهم» أو … «التفاهم»!

لا استسلامَ إذن لاحتمال الفشل، وأيضاً لا رغبة في التشفّي والإقصاء… وفق تعبير محمد رعد، رئيس الكتلة البرلمانية لـ«حزب الله». وهذا موقف ينسجم مع ما هو معروف عن الرئيس المكلّف والرجل الرصين والمثقف، ناهيك بالملمّ تماماً بأوضاع منطقة الجنوب، سواءً من واقع امتلاك أسرته «البيروتية» أراضي واسعة في المنطقة الحدودية بقضاء صور أو كونه صهراً لمدينة صيدا عاصمة الجنوب وكبرى مدنه…

أكثر من هذا، نوّاف سلام لم يأتِ – وما كان مضطراً لأن يأتي – من أجل تصفية الحسابات مع «المقاومة»، وهو الدبلوماسي والقاضي الدولي الذي تصدّى بشجاعة ومبدئية لليكوديي إسرائيل من أرفع مرجعيتين دوليتين، هما مجلس الأمن الدولي ومحكمة العدل الدولية. بل، وتعزيزاً لمكانة الجنوب في المعادلة السياسية الجديدة، فإن سلام عبر تولّيه رئاسة الحكومة سيقود السلطة التنفيذية مع رئيس الجمهورية العماد جوزيف عون … الذي بات أول جنوبي ينتخب رئيساً للجمهورية في تاريخ لبنان المستقل.

الصورة، على هذا الأساس، ينبغي أن تكون واضحة.

نعم، ينبغي… ولكن أين يمكن أن تكمن المشاكل؟

الاعتراضات الشيعية المبكّرة جاءت مؤشراً غير مطمئن، لا سيما أنها انطلقت من ثلاث تهم كبيرة مترابطة ومرتبطة بمناخ ما بعد حرب إسرائيل الأخيرة على «حزب الله»، وهي: «الغدر» بـ«المقاومة» – أي «حزب الله» وقاعدته – والاستقواء عليهما بالخارج (!)، والعمل على «تهميش» النفوذ الشيعي بدءاً بإقصائه عن التشكيلة الوزارية العتيدة.

مفهومٌ أن «الجرح»، الذي خلّفته الحرب العدوانية الإسرائيلية، جرح واسع وملتهب «شُقّ» في جسد الحزب وسط رعاية أميركية غير مسبوقة لإسرائيل. ثم إنه كان سهلاً على واشنطن الدفاع عن تلك الحرب في الغرب بالزعم أن «حزب الله» لم يكن هذه المرة يدافع عن نفسه، ولا يقاوم احتلالاً لأرضه، بل اتخذ قرار الحرب – من دون التنسيق مع الدولة اللبنانية – تضامناً مع حركة «حماس» في غزة.

وطبعاً، على الرغم من المجازر الفظيعة وجرائم التهجير التي صاحبتها في غزة، زعمت السردية الأميركية – الإسرائيلية أن الحرب العدوانية الإسرائيلية كانت «رداً دفاعياً» إسرائيلياً على «اعتداء» من «حماس» على «مدنيي» غلاف غزة في عملية «طوفان الأقصى» في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023!

وهكذا، برّر اختلال الحسابات السياسية، بدءاً من «حماس» وانتهاء بـ«حزب الله»، في واشنطن – وبالذات في سنة انتخابات رئاسية أميركية – ليس دعم آلة الحرب الإسرائيلية فحسب، بل فتح «مزاد» بين الحزبين الأميركيين الجمهوري والديمقراطي لكسب رضى «اللوبي الإسرائيلي». وفي النهاية، أهدى هذا «المزاد» اليمين الجمهوري، المنسجم كلياً مع «الليكود»، انتصاراً ضخماً.

في مطلق الأحوال، ومن دون الخوض طويلاً في الاعتبارات الإيرانية التي ساهمت في «طوفان الأقصى» ثم «حرب (حزب الله) الإسنادية»، يجد اللبنانيون أنفسهم اليوم أمام واقع سياسي جديد. وأبرز ملامح هذا الواقع استعادة المواطن اللبناني قراره على الرغم من تعدد القراءات وتضارب المصالح الحزبية والطائفية الصغيرة.

منذ عقود أحكم «حزب الله»، ومن خلفه إيران وإلى حد بعيد نظام الأسد، هيمنته بحجة المقاومة. واحتفظ الحزب، بخلاف كل الميليشيات الحزبية والطائفية اللبنانية الأخرى، بسلاحه الخاص خارج السلطة حتى بعد الانسحاب الإسرائيلي عام 2000. ومع هذا، حتى 2005 لم يجد اللبنانيون الوطنيون سبباً وجيهاً لافتعال أزمة داخلية مع مكوّن لبناني – كان جغرافياً الأقل – في خط المواجهة المباشرة مع إسرائيل.

ومع أن اللبنانيين كانوا يدركون حقيقة ارتباطات الحزب العقائدية والاستراتيجية مع «الخارج»، وتحديداً إيران، فإنهم لم يطرحوا علامات استفهام جدية حول دوره ومطامحه، إلا بعد سلسلة الاغتيالات ومحاولات الاغتيال عام 2004. ولاحقاً تأكدت الصورة تماماً بعد حرب 2006، ثم «غزوتي» بيروت والجبل، واحتلال وسط بيروت من أجل فرض ميشال عون رئيساً.

قادة الحزب الذين اتهموا بالأمس القوى التي أوصلت جوزيف عون ثم نواف سلام إلى قمتي السلطة التنفيذية، بالرضوخ لإملاءات الخارج، اختاروا أن يتناسوا دور «الخارج» في فرض فائق القوى لصالحهم الذي انعكس على كل مفاصل الحياة السياسية والأمنية والاقتصادية والقضائية في لبنان. وأيضاً، تجاهلوا أن النواب وغيرهم من الساسة ساروا هذه المرة وللمرة الأولى وفق مزاج الشارع…

الشارع الذي شعر بوقع نكسة «حزب الله» الأخيرة، فاحتضن بيئته بلا تردد أو منّة…

الشارع الذي ارتاح من الكابوس الذي شكله نظام دمشق عليه منذ النصف الثاني من عقد السبعينات، ومع ذلك انفتح على الحزب رغم دوره السلبي بحق السوريين.

الحقيقة، بكل بساطة، أن الشارع اللبناني ضد الإقصاء والعزل والتهميش… لكنه يأمل من «حزب الله» فتح صفحة جديدة عنوانها المواطنة لا المكابرة، والشراكة لا الاستعلاء، والتوافق لا الهيمنة!

التعليقات معطلة.