جمال خاشقجي
لقاء العاهل السعودي مع رئيسة الوزراء الكورية الجنوبية خلال زيارته اليها
في خضم زوبعة العناوين الصحفية الرئيسية التي تتحدث عن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وعن حملته الفاقعة ضد الفساد، قد ينسى المرء أنه قبل ما لا يزيد عن أسبوع من ذلك، كان الأمير يحتفي بكبار الشخصيات من قطاعات الصناعة والتكنولوجيا والمال في العالم في مؤتمر للاستثمار دشن فيه مشروع نيوم، المدينة المستقبلية التي ينوي إقامتها على ساحل البحر الأحمر. وكما كتب ديف إيغرز في “هولوغرام للملك” (والهولوغرام هو الصورة ثلاثية الأبعاد)، الذي يصف فيه بائعا أمريكيا يسافر إلى المملكة العربية السعودية لزيارة تحفة واعدة شبيهة بها، “كان هناك أناس في العالم، ما العالم وما فيه من بشر بالنسبة لهم سوى كائنات وجدت ليمارس عليها السحر.”
إلا أن السحر بطل وانقشعت آثاره عندما وقع اعتقال العشرات من أفراد العائلة الملكية الحاكمة وكبار المسؤولين الحاليين والسابقين داخل فندق ريتز كارلتون بتهمة الفساد. تم فيما بعد إطلاق سراح البعض منهم بعدما أشيع أنهم دفعوا المليارات فيما يبدو – وبشكل متزايد – أنه عملية نفض وانقلاب على الأمر الواقع بدلا من أن يكون إجراء قانونيا لإحقاق الحق وإقامة للعدل.
وانتشرت مؤخرا شائعات بأن الدولة تنوي وضع عدد من الشركات الخاصة تحت الحراسة، في عهدة صندوق الاستثمارات العامة التابع للحكومة، معمقة بذلك التداخل ما بين قطاع الأعمال والحكومة، الأمر الذي سيحول دون أن يتمكن الاقتصاد السعودي من تحقيق الإنجازات الكامنة منه بشكل كامل. وكانت أسهم المملكة القابضة، وهي الشركة الرئيسية التي يملكها الأمير الوليد بن طلال، قد فقدت ما يزيد عن واحد وعشرين بالمائة من قيمتها (2.8 مليار دولار) بعد إلقاء القبض عليه. مثل هذه الأساليب التي تنتهجا الأذرع، ينجم عنها ردع المستثمرين الأجانب الذين يتساءلون “إذا كانت الحكومة لديها الاستعداد للانقضاض على مثل هؤلاء المشاهير من المواطنين السعوديين، فماذا عساها تفعل بنا؟”
قال لي أحد رجال الأعمال العرب: “تقف المملكة العربية السعودية على مفترق طرق. فمن أجل أن تنجح رؤية 2030 فإن الشفافية والعدالة والفرص المتكافئة – كما يسميها محمد بن سلمان – شروط أساسية
كصحفي سعودي بدأ ممارسة المهنة مباشرة بعد الطفرة النفطية في سبعينيات القرن الماضي، كنت بنفسي شاهدا على النمو والتمدد الهائل في قطاع الأعمال السعودي والدور المحوري الذي أداه رواد هذه المؤسسات في تشييد الاقتصاد السعودي الحديث. كان ارتباطهم بالحكومة السعودية لا يكاد ينفصم، فهي التي يسرت لهم سبل الوصول إلى رأس المال ووفرت لهم غير ذلك من أشكال الدعم الشرعي، الذي عزز من أوضاعهم وسرع من نمو أعمالهم.
إلا أن هذا النمو السريع كانت له تداعيات، بما في ذلك استشراء الفساد الذي لم تسلم منه ناحية من نواحي المجتمع، بما في ذلك بعض من أفراد العائلة الملكية الحاكمة، آل سعود. والآن، وبينما تستهدف حملة محاربة الفساد – التي تشوبها الأخطاء الفادحة – أفراد العائلة الملكية الحاكمة وأشهر القيادات في قطاع رجال الأعمال، يفوت الكثيرين تقدير ما قام به رواد الأعمال هؤلاء وبشكل خاص دورهم في تنمية وتنويع الاقتصاد، بما وفر فرص العمل للملايين من الشباب السعودي.
ليست المملكة العربية السعودية بدعا من الأمم في وجود مثل هذه العلاقة الوثيقة بين رجال الأعمال والمسؤولين في الحكومة؛ فقد كشف السقوط المذهل للرئيسة بارك غيون هاي العام الماضي عن منظومة مشابهة في كوريا الجنوبية. فبعد انتهاء الحرب الكورية، جذب والدها والرئيس السابق بارك تشون هي رجال الأعمال والرأسماليين عبر منحهم قروضا زهيدة، وامتيازات حصرية للمساهمة في بناء الوطن، ولكنه في المقابل أصبح شريكا لهم فيما كانوا يجنونه من أرباح. تمخضت هذه الاستراتيجية عن بروز قطاع تجاري ضخم مملوك لعائلات (تشيبولز)، أصبح بعضها فيما بعد من الأسماء التجارية الكبيرة مثل سامسونغ وهايونداي. وكانت هذه المؤسسات هي التي أعادت بناء كوريا الجنوبية وصنعت منها ماردا صناعيا على مستوى العالم.
إذا أراد محمد بن سلمان معالجة قضية الفساد بشكل صحيح، فإن عليه أن يحافظ على عنصرين لا يستغني عنهما الاقتصاد السعودي: الثقة بالدولة ودور الشركات الوطنية
إلا أن كوريا تعاملت مع الفساد بشكل مختلف تماما، فقد جرت وقائع محاكمة الرئيسة بشكل علني وانتهت بصدور حكم قضائي بحقها، وفي تلك الأثناء ظلت المؤسسات التجارية ذات العلاقة تتمتع بوجود عازل وقاها عواقب الإطاحة بالرئيسة بارك وحكومتها، فظلت تمارس عملياتها التجارية اليومية وتجني أرباحها دونما إعاقة أو ضرر. بل بلغ الأمر بعد الإطاحة بالرئيسة بارك أن أصدر المراقب الأعلى على النشاطات المالية في كوريا الجنوبية بيانا صرح فيه بأن مغادرة بارك لن تؤثر على استقرار السوق.
ما يحدث في المملكة العربية السعودية هو العكس تماما. ولقد قال لي أحد رجال الأعمال العرب: “تقف المملكة العربية السعودية على مفترق طرق. فمن أجل أن تنجح رؤية 2030 فإن الشفافية والعدالة والفرص المتكافئة – كما يسميها محمد بن سلمان – شروط أساسية. إلا أن إجراءات مكافحة الفساد على مدى العام الماضي، وتحديدا من الرابع من تشرين الثاني/نوفمبر فما بعد، خلقت حالة من انعدام اليقين وانعدام الوضوح… فلكي تنتعش التجارة داخل المملكة وترد إليها الاستثمارات لابد من الالتزام بسيادة القانون وبالشفافية. كما أن من المهم تذكر أن معظم التجار في المملكة العربية السعودية كونوا ثرواتهم من خلال علاقاتهم ما بين فينة وأخرى بمن هم في السلطة. لربما كان حريا بمحمد بن سلمان من باب الحصافة أن يعرض على جميع التجار دون استثناء أو تمييز صفقة لمرة واحدة – على سبيل المثال – لتسوية أوضاعهم ودفع الضرائب المستحقة على أموالهم”.
بدلا من الإجراء المتسرع الذي تمخض عن تشكيل “لجنة عليا” لمعالجة الفساد، كان بالإمكان تنفيذ الحملة بشفافية وتطبيق عادل للقانون على جميع المواطنين السعوديين بغض النظر عن الانتماء العائلي أو الواسطة (بما تعنيه من امتيازات وعلاقات). لو حصل ذلك لكان تحولا جذريا ودراماتيكيا بعيدا عما كان معهودا منذ وقت طويل.
فليأخذ ولي العهد الأمير محمد بن سلمان من الأمراء ما يريد، فهم لا يضيفون شيئا إلى الاقتصاد الوطني، بل يشكل هؤلاء الأمراء عبئا ماليا وأخلاقيا على الدولة. ومع ذلك، فإن من الأهمية بمكان أن يميز بين الثروة التي حصل عليها أصحابها من خلال ممارسة تجارية مشروعة والثروة التي تنتشر في أوصال العائلة الملكية الحاكمة. لقد ترتبت عن اقتحام العائلة الملكية الحاكمة لقطاع التجارة والأعمال نتائج كارثية على عامة الناس وعلى الاقتصاد في البلاد، حيث حصل الأمراء ووكلاؤهم على منح تقدر بملايين الأمتار المربعة من الأراضي، مما رفع أسعار المساكن فباتت فوق طاقة الفقراء من الناس.
ينبغي تشريع قوانين جديدة تضع يدها على الفساد وتمنع تكراره، وبشكل خاص قوانين تبقي أعضاء العائلة الملكية الحاكمة بعيدين عن عالم التجارة والأعمال
كما حصلوا على تراخيص لحفر الآبار لاستخراج المياه لري حقول من القمح لا مبرر لوجودها إلا بيع ناتجها بأسعار مدعومة، وبذلك دمروا مخزون المياه وحرموا الأجيال القادمة من خيرها. لقد ساهمت العائلة الملكية الحاكمة في إيجاد طبقة فاسدة من رجال الأعمال الذين لا دور لهم سوى تشكيل واجهة يلبون من خلفها أطماعهم، وكانت النتيجة تلطيخ سمعة مجتمع رجال الأعمال بأسره.
إذا أراد محمد بن سلمان معالجة قضية الفساد بشكل صحيح، فإن عليه أن يحافظ على عنصرين لا يستغني عنهما الاقتصاد السعودي: الثقة بالدولة ودور الشركات الوطنية. إذا ما فقد رجل الأعمال الثقة بالدولة فلن يستمر في الاستثمار، بل سيعمد بديلا عن ذلك إلى الانتقال برأسماله وخبرته إلى مكان آخر. وثانيا، ينبغي على محمد بن سلمان أن يعتبر شركات المقاولات الضخمة والوكالات التجارية ثروة وطنية؛ فلقد اكتسبت هذه المؤسسات خبرة هائلة وحازت سمعة حسنة على المستويين الدولي والمحلي، ولديها ذاكرة مؤسساتية لا تعوض.
ينبغي تشريع قوانين جديدة تضع يدها على الفساد وتمنع تكراره، وبشكل خاص قوانين تبقي أعضاء العائلة الملكية الحاكمة بعيدين عن عالم التجارة والأعمال، ما لم يوافقوا قبل الدخول إليه على التخلي عن ألقابهم ومخصصاتهم والأهم من ذلك مناصبهم الحكومية. ما من شك في أن مكافحة الفساد عملية بالغة التعقيد، إلا أنه من المهم جدا أن تكون جميع أعمال محمد بن سلمان شفافة، من أجل مصلحة ومستقبل المملكة العربية السعودية.