ماجد كيالي
عودتنا الولايات المتحدة الأميركية على مواقف متغيرة ومتقلبة ومختلفة، إزاء الصراع السوري وإزاء الطرفين المباشرين فيه، أي النظام والمعارضة (السياسية والمسلحة) كما إزاء القوى الإقليمية والدولية المنخرطة فيه بطريقة مباشرة وغير مباشرة.
هكذا عبرت في البداية عن مؤازرتها ثورة السوريين، وعن موقفها بأن الرئيس الأسد فقد شرعيته وأن عليه أن يرحل، وذهب سفيرها إلى مواقع الحراك الشعبي السلمي في حماه ودوما وداريا، بل إن الأمر وصل، في ما بعد، إلى حد التعاطي مع بعض الفصائل المسلحة، وعبر دعم غرفتي الموم والموك في الأردن وتركيا، وصولاً إلى تحذيرها النظام من استخدام السلاح الكيماوي باعتبارها له خطاً أحمر، وأنه يستوجب العقاب.
وكما نعلم قد اختلف الموقف الأميركي بعد استخدام النظام للسلاح الكيماوي في الغوطة (آب -أغسطس- 2013)، إذ بدلاً من معاقبته، أو عزله، لجأت إلى عقد صفقة معه، بوساطة روسيا، نجم عنها القرار 2118، ومنذ ذلك التاريخ غضت الولايات المتحدة النظر عن انخراط قوى إقليمية في هذا الصراع لاسيما إيران، وأذرعها الإقليمية الميليشياوية المسلحة، مثل حزب الله وزينبيون وفاطميون ونجباء وعصائب الحق وبدر.
وفي تلك الفترة، أيضاً، قامت بتوكيل روسيا إدارة الصراع السوري، كما بدا من تسليمها بالقراءة الروسية لبيان جنيف 1 (2012)، وصولاً إلى القرار 2254 (2015) الذي جاء مخففاً لسابقه، بخاصة في ما يتعلق بتعويم مكانة الرئيس في الحل الانتقالي، وفي محاولة لتركيز الحرب على الإرهاب، في محاولة منها لمقاربة الموقف الروسي. وطبعاً، فقد امتد ذلك إلى حد سماحها لروسيا بشق مسار تفاوضي جديد، في آستانة، طوال عام 2017، بالتعاون مع الطرفين الإقليميين الأخرين، إيران وتركيا، مكتفية بمراقبة ما يحصل.
كل ما تقدم حصل في ظل الإدارة الأميركية السابقة، أي في ظل الرئيس باراك أوباما، لكن ما ينبغي ملاحظته أن هذه السياسة استمرت، على رغم تصريحات الرئيس دونالد ترامب المضطربة، التي تتحدث أحياناً عن عدم مبالاة بالصراع السوري، وأحياناً عن التزام الولايات المتحدة مسار جنيف، كمسار وحيد للحل السياسي في سورية.
بيد أن النقلة الأساسية التي ينبغي ملاحظتها في تقلّب مواقف الولايات المتحدة تتمثل في التصريحات الصادرة من بعض المسؤولين ومنهم وزيرا الدفاع والخارجية وغيرهما، والتي مفادها، أولاً، أن الولايات المتحدة لن ترضى بأي مسار تفاوضي غير مسار جنيف وتحت مظلة الأمم المتحدة، ما يعني القطع مع روسيا، ومع مساعيها المتمثلة في مسار آستانة، ولاسيما في المسار الأخر الذي تعول عليه كثيراً وهو مؤتمر سوتشي. ثانياً، الإعلان أن الولايات المتحدة لن تشارك في تمويل عمليات الإعمار في سورية مع بقاء نظام الأسد في السلطة، أو قبل إيجاد استقرار سياسي يجمع عليه غالبية السوريين. ثالثاً، أن الولايات المتحدة لن تسمح بممر لإيران إلى لبنان عبر سورية، وهذا موجه ضد إيران تحديداً وميلشياتها، وقد تم ترجمة ذلك بتوجيه ضربات عسكرية للقوات الإيرانية او الموالية لها. رابعاً، لقد ترجمت الإدارة الأميركية كل هذه التوجهات برصد نحو 500 مليون دولار لدعم فصائل معارضة، وإنشاء جيش قوامه 30 ألفاً لحماية الحدود السورية مع تركيا والعراق وشرق نهر الفرات. خامساً، في الغضون لا ينبغي أن ننسى أن الولايات المتحدة، وهي كانت تلعب دور المراقب، أقامت نحو ثماني قواعد عسكرية شرق الفرات، وباتت تسيطر بطريقة مباشرة وغير مباشرة على نحو ثلث الأراضي السورية، هذا من دون أن نضيف إليها منطقة خفض التصعيد في الجنوب التي تشرف عليها مع روسيا والأردن (وضمناً إسرائيل)، أي أن ثمة ما يقارب نصف الأراضي السورية، خارج سيطرة النظام وحلفائه.
بيد أن ما يجب إدراكه هنا أن الولايات المتحدة لم تغيّر سياستها في سورية، إلا بالنسبة إلى ما تعتقده الأطراف المعنية مباشرة، أو ترغبه، انطلاقاً من مصالح كل طرف، في حين من المفترض أن تتمّ قراءة الموقف الأميركي، في كل ما نعتقد أنه تقلّبات فيه، من داخله، أي بفهم محركات السياسة والمصالح في الولايات المتحدة الأميركية، ورؤيتها لمكانتا الدولية، ولإدارة الصراع في المنطقة، من دون أوهام.
على ذلك، ومع التقدير لكل ما نعتبره تقلّبات في الموقف الأميركي إلا أن ما يفترض أن ندركه أن الولايات المتحدة لا يعنيها من يحكم في سورية، سواء كان شخصاً أو حزباً، وسواء كان يسارياً أو قومياً أو إسلامياً، كما لا يعنيها ما يحصل في هذا البلد، إذا استثنينا ما يخص قضية الصراع مع إسرائيل. ويمكن تفسير ذلك بأسباب عدة، أهمها:
أولاً، أن هذا البلد لم يكن محسوباً طوال العقود السابقة، ضمن دائرة حلفائها التقليديين، لذا فهي لا تشعر بخسارة ما في هذا المكان.
ثانياً، أن مصالحها مضمونة بغض النظر عن طبيعة النظام الحاكم، سواء كانت مصالح سياسية أو اقتصادية أو أمنية، وهو ما يمكن تبيّنه من مراجعة السياسات التي انتهجها النظام السوري طوال نصف القرن الماضي، بغض النظر عن كل الشعارات أو الادعاءات.
ثالثاً، أن هذا البلد صغير وفقير الموارد، وتنبع أهميته من موقعه الجغرافي، ومن جواره مع إسرائيل.
رابعاً، إن تعامل الولايات المتحدة مع المسألة السورية، بغض النظر عمّن هو الرئيس، يتأسس على الاستثمار في المسألة السورية، وهذا يختلف عن إدارة الأزمة، لأنها في حقيقة الأمر، ومن الناحية العملية، تشجع كل الأطراف على المجيء إلى سورية، وعلى تحويل سورية إلى ساحة للمواجهة أو للصراع، في حين تجلس هي في مقاعد المتفرجين، أو في مكانة الحكم بين الأطراف.
وعلى الأرجح فإن الإدارة الأميركية تشتغل في سورية بناء على فكرتين، أولاهما، ترك الآخرين يتقاتلون في ما بينهم ويستنزفون بعضهم، بما يشبه مقولة «دع العرب يتقاتلون»، والمقصود هنا إيران وتركيا وروسيا والسعودية، وغيرها من الدول العربية. وثانيتهما، أن كل الأطراف، بعد أن تكون أُنهكت واستنزفت، ستلجأ في الأخير إلى الولايات المتحدة، باعتبارها صاحبة القوة الأكبر، وباعتبارها الحكم. طبعاً، وفي السياق ذاته، لا يمكن أن ننسى القطبة المخفية (أي الإسرائيلية)، في هذا الأمر، إذ إن أغلب المؤشرات تفيد بأن إسرائيل هي أكثر دولة مستفيدة من بقاء الأمور على ما هي عليها في المنطقة، ولا سيما في سورية.
أما الأسئلة التي يمكن أن نطرحها على أنفسنا، من وجهة نظر المعارضة السورية، أو من وجهة نظر مصلحة الشعب السوري، بالخلاص والاستقرار، على ضوء التغيرات الجديدة في الموقف الأميركي، فهي تتمثّل بأسئلة من نوع: هل هذه المتغيرات هي فعلاً بمثابة إعلان عن انخراط جديد للولايات المتحدة في الصراع الدائر في سورية بعد أن كانت تكتفي بدور المراقب لصراعات القوى الدولية والإقليمية فيها؟ وهل هناك قرار حقاً بتحجيم نفوذ إيران، في سورية والعراق، بعد أن كانت الولايات المتحدة قدمت العراق على طبق من فضة للنظام الإيراني وأتباعه من مليشيات طائفية؟ ثم أين يضع ذلك روسيا، فهل انتهت مرحلة التوكيل الأميركي لروسيا، وما هو رد الفعل الروسي على ذلك؟ ثم ماذا في شأن تركيا، وأين سيضعها هذا الأمر، مع اخذنا في الاعتبار الاستقطاب الروسي الأميركي، وما تراه تركيا مصلحتها في عزل «قوات سورية الديموقراطية» التي تعتبر حليفاً للولايات المتحدة؟ أخيراً بالنسبة إلى المعارضة السورية أين سيضعها هذا الاستقطاب الجديد، بين تركيا والولايات المتحدة ومصالح شعبها، وما تأثير ذلك فيها؟ وماذا عن مؤتمر سوتشي بل ومفاوضات آستانة وجنيف وهل نحن إزاء حقبة جديدة من الصراع العسكري أم على أبواب حل سياسي؟
طبعاً هذه الأسئلة تحتاج إلى أجوبة من مختلف الأطراف، ومن المبكّر الإجابة عليها بطريقة جازمة، وهي موجهة أساساً إلى القوى الحية والفاعلة في المعارضة السورية (السياسية والعسكرية والمدنية) لترتيب أمورها إزاء التحديات الجديدة، مع علمنا أن كثيراً من الأمور ستظل تعتمد على معرفة ما إذا كان الولايات المتحدة قررت، أو وصلت فعلاً إلى قناعة بأن استثمارها في الصراع السوري بات يتطلب الحسم، وأنه أن أوان تحقيق الاستقرار وضبط اللاعبين المحليين والخارجيين.