«المزرعة الملعونة» لسيدني بولاك: ما تبقّى من الحلم الأميركي

1

 
ابراهيم العريس
 
تحمل عناوين فيلم سيدني بولاك بين صانعيه أسماء عدد كبير من مبدعين كانوا مجهولين أو غير معروفين تماماً في الساحة الثقافية الأميركية، ومن ثم، العالمية في ذلك الحين. لكنها أتت لتصبح منذ ذلك الحين أسماء شهيرة في عالم الفن السابع، بل أن بعضها حلّق عالياً أكثر بكثير مما كان متوقعاً حتى في هذا الفيلم الاستثنائي الذي نتحدث عنه هنا. أجل، كلهم تقريباً كانوا، في ذلك الحين، في بداياتهم، باستثناء تنيسي ويليامز وناتالي وود، ومن هنا كان يمكن أن يبدو «المزرعة الملعونة» فيلماً أولاً لمعظمهم، أو يشبه الفيلم الأول لكثر، منهم المخرج سيدني بولاك، وكاتب السيناريو فرانسيس فورد كوبولا، والممثل روبرت ردفورد بين آخرين. لكن الذي حدث كان العكس تماماً: بدا الفيلم ناضجاً وكبيراً. بدا فيلماً يؤسس لنوع سينمائي جديد يمتزج فيه عنف العواطف بالرومنطيقية بالأبعاد الاجتماعية الخطرة. بدا فيلماً على حافة ما كان يمكن للسينما الكبيرة أن تكونه، وستكونه بالفعل خلال العقود التالية. وهذا ما يدفع بعض النقاد والمؤرخين إلى اعتبار «المزرعة الملعونة» إحدى البدايات الحقيقية لثورة هوليوود الجمالية والأخلاقية التي ستندلع خلال عقد سبعينات القرن العشرين. أما بالنسبة إلى «المزرعة الملعونة» فكنا لا نزال في العام 1966، يوم لم يكن مخضرم هوليوود الكبير الراحل منذ سنوات، سيدني بولاك، قد حقق فيلماً واحداً… وخاض تجربته الثانية في الفيلم الذي نحن في صدده. هذا الفيلم أتى اقتباساً كما نعرف لمسرحية من فصل واحد كتبها تنيسي ويليامز من دون أن يزعم أنها ستكون من أعماله الكبيرة. فهي ليست، بعد كل شيء، سوى حكاية حب عادية في الجنوب الأميركي على خلفية أوضاع اجتماعية بائسة، من النوع الذي كان في إمكان ايليا كازان، على سبيل المثال، أن يبني من حوله فيلماً متوسط القيمة بين أفلامه. ومن النوع الذي كان يمكن فيه لناتالي وود أن تعيد لعب أدوار كان سبق لها أن لعبتها في أفلام لها سابقة، وبعضها من إخراج كازان نفسه. ولكن هنا، وإذ جعل كاتب السيناريو كوبولا والمخرج بولاك، قصة الحب ثانوية الأهمية أمام نتائجها وخلفياتها، كانت النتيجة فيلماً كبيراً.
 
 
> فيلم «المزرعة الملعونة» إذاً، هو بالتأكيد فيلم كبير ذو نسغ شديد الوعي للواقع الأميركي، وتحديداً لواقع الجنوب الأميركي. ولعل أساس الفيلم أتى من عمق قراءة كوبولا لنص تنيسي ويليامز، لروح هذا النص وليس لأحداثه الخارجية، فيما أتت نظرة سيدني بولاك لتعطي اللغة البصرية دور المؤشر البرّاني إلى ما يعتمل في وجدانية الشخصيات، ولكن خصوصاً في جوّانية الأمكنة. ذلك أن المكان (الجنوب المتنوع) يلعب في هذا الفيلم دوراً أساسياً.
 
وطالما أننا نتحدث هنا عن المكان الجنوبي، لا يعود مستغرباً أن ينتمي النص إلى تنيسي ويليامز، الذي عرف كيف يجعل من مسرحه ونصوصه جميعاً، تعبيراً عن جنوب أميركي لم يعرف كيف ينسى، أبداً، هزيمته أمام الشمال المتطور والمصنّع، في معركة تحرير العبيد قبل ذلك بقرن وأكثر.
 
> تدور أحداث «المزرعة الملعونة» في ولاية الميسيسيبي في ثلاثينات القرن العشرين. وهذه الأحداث تروى لنا هنا على لسان الصغيرة ويلي التي تحدثنا عن أختها الكبرى آلفا التي عاشت، بحسب ويلي، طفولة ومراهقة عاصفتين تحت سيطرة أمهما العنيفة هازيل ستار، التي كانت تدير ذلك النزل العائلي الذي يشكل محور الأحداث. في ذلك الحين، ودائماً بحسب رواية ويلي، كانت آلفا صبية مراهقة فائقة الحسن مقبلة على الحياة مفعمة بالحيوية، لكنها في الوقت نفسه تعيش توقاً غامضاً ودائماً إلى البعيد وإلى الحب. صحيح أن كل الشبان والرجال في المنطقة- وهم في معظمهم من عمال ومستخدمي السكك الحديد- كانوا يلاحقون آلفا بحبهم ورغبتهم فيها معبرين في كل لحظة عن إعجاب مبرر لا ينضب، لكن آلفا لم تكن تعير أياً من هؤلاء أي اهتمام. فهي من خلال توقها إلى البعيد وتطلعها إلى حياة مختلفة في مكان آخر، كانت في أعماق «حديقتها السرية» تنتظر مجيء فارس الأحلام، المميز الاستثنائي الذي سيطل ذات يوم، بحسب إيمانها، ليحبها ويكون جديراً بحبها ويأخذها إلى البعيد. والحقيقة أن انتظار آلفا (ناتالي وود) لم يطل… إذ ما أن ينقضي بعض الوقت على ازدهار حلمها وتألقه، حتى يصل ذلك الشاب الأنيق اللطيف الساحر، أوين ليغيت (روبرت ردفورد)، الذي ستغرم به ما أن تلتقيه عند وصوله. والحقيقة أن كل هذا كان يمكنه أن يبدو منطقياً وسهلاً، لولا أن الآتي الغريب، إنما هو هنا ليقوم بمهمة غير مستحبة: فشركة السكك الحديد هي التي أرسلته إلى المكان ليتولى ترتيب أمور صرف العمال والمستخدمين من الشركة، على خلفية الكارثة الاقتصادية التي أصابت كل الأعمال والأيام، إذ أننا هنا في خضم ثلاثينات القرن العشرين، خلال السنوات التالية مباشرة لانهيار البورصة الذي رمى عشرات ملايين الأميركيين في الفقر والبطالة، وكان من الطبيعي لأهل المكان أن يحسوا على الفور أن أوين ليغيت هو عدوهم الذي أتى ليحرمهم من لقمة العيش. وإذ أغرمت آلفا بأوين، صارت العداوة مزدوجة. ومن هنا قوطع الرجل وحورب من قبل السكان جميعاً، بمن فيهم هازيل ستار، أم آلفا. غير أن هذه الأخيرة، لأنها من ناحية أحبت أوين حقاً، ولأنها من ناحية ثانية متمردة في طبيعتها، وكارهة للجو المحلي، عنفت عاطفياً في ارتباطها بأوين وعاشت حبها في تحد سافر مع كل الآخرين، وبالتالي في صراع عنيف مع أمها ومحيطها المباشر. في ذلك الصراع تنتصر الأم بداية، إذ في الوقت الذي يرسل أوين إلى نيوأورلينز، بعيداً من المجتمع الذي لفظه، تتمكن الأم من إرغام ابنتها على الاقتران بشخص لم تكن لتبالي به على الإطلاق. وآلفا، بعد رضوخ أول، تستجيب بسرعة إلى نداء قلبها وتهرب من النزل الملعون لتنضم إلى حبيبها في نيوأورلينز، في اليوم التالي للعرس. وهنا يتدخل القدر على شكل مرض صدري يصيب آلفا ما إن حصلت على قسط من السعادة المزدوجة: الحب والانتقال إلى المكان الآخر… إلى البعيد. وهذا المرض العنيف سرعان ما يقضي عليها، فيما ينتج عن ذلك كله أن أسرتها تتفرق وينتهي الأمر، بينما تختتم ويلي الحكاية.
 
> إذاً، هذا الموضوع الذي يشبه أي حكاية حب عادية تنتهي بموت أحد طرفيها، تحوّل تحت يد الذين اشتغلوا عليه إلى عمل اجتماعي أخلاقي مهم، كما أنه صار بالنسبة إليهم مدخلاً إلى عالم السينما الكبيرة كما أشرنا، خصوصاً أن الفيلم حفل بالمشاهد الرائعة التي تكشف نظرة الفنانين الكبار إلى الحلم الأميركي وتعليقهم على انهيار حصتهم منه (في هذا المجال يفيد التذكير بالمشهد الرائع حين تتحدث آلفا عن حلمها الربيعي وهي جالسة وسط عربة قطار خربة صدئة). واللافت أن تنيسي ويليامز، الذي وقف مسانداً الفيلم منذ البداية، قال دائماً إنه يعتبره الأنجح بين الأفلام التي اقتبست عن أعماله. وهو قول من الصعب أن نوافقه عليه، ويوافقه عليه من تتبع مسيرة علاقته بالسينما، إذ نعرف أن ثمة أعمالاً سينمائية كبيرة جداً عرفت كيف تقتبس نصوصه وتنسى أصولها المسرحية، ومنها أعمال حملت تواقيع جوزف مانكفتش وايلي كازان وجوزف لوزاي، وريتشارد بروكس بين آخرين.
 
> مهما يكن من أمر، يمكننا أن نؤكد هنا أن «المزرعة الملعونة» عرف كيف يرفع مخرجه سيدني بولاك، الذي كان يومها في الحادية والثلاثين من عمره، إلى صفوف أولئك الأساتذة الكبار. فهو الذي تأسس أصلاً في العمل المسرحي والتلفزيوني، حقق من بعد «المزرعة الملعونة»، سلسلة كبيرة من أفلام ربما تكون أساليبها كلاسيكية ولكن من الواضح أنها واكبت بقوة، تلك الثورة الهوليوودية التي يصعب، على أي حال، ربطه بها عضوياًَ، بل يمكن أن يقال إنه عاش وعمل حتى الآن، متأرجحاً بينها وبين كلاسيكية خاصة به. وبولاك، الذي يظهر ممثلاً بين الحين والآخر (تحت إخراج وودي آلن أو ستانلي كوبريك)، حقق أعمالاً عرف كل منها كيف يكون علامة في مجاله، من «الحياة التي عشناها» (1973) إلى «الفارس الكهربائي» و«خارج أفريقيا» و«أيام الكوندور الثالثة»، ثم خصوصاً «جيريميا جونسون» الفيلم الذي لعبه ردفورد أيضاً، الذي يعتبر من العلامات الهوليوودية الأساسية في مجال التصدي للتاريخ الأميركي بعيداً من الظلم الذي ألحقته السينما بالهنود الحمر، والظلم الذي ألحقه التاريخ بالطبيعة نفسها وسيرتها.

التعليقات معطلة.