الأربعاء – 28 شهر ربيع الأول 1443 هـ – 03 نوفمبر 2021 مـ رقم العدد [15681]
هالة محمد جابر الأنصاريالأمين العام للمجلس الأعلى للمرأة في البحرين
تستمر الأنظار العالمية في متابعة الموقف «الطالباني» تجاه المرأة الأفغانية منذ أن تولت «الحركة» إدارة الدولة بالصيغة التي أقرتها التحولات الجيوسياسية في المنطقة، حيث يتزايد الغموض حول الواقع الحقوقي للنساء والفتيات في ظل ما يصدر عن مسؤوليها من تصريحات وتوجهات متأرجحة ومحيرة، تتحدث أحياناً عن إمكانية عمل المرأة المقيد والمشروط، ثم تعود لتنقض ذلك برأي يقول بأن «دور المرأة يقتصر على الولادة فقط»، ولا نعرف إن كان حكم طالبان سيلتزم بالحفاظ على حق المرأة في التعليم أو لا؟ وهل من صيغة مستقرة لعودة الفتيات لمدارسهن، في ظل توجه عدد من الناشطات بفتح مدارس تحت الأرض! لتقديم التعليم في الخفاء بعيداً عن أعين الدولة؟
والمقلق فيما تواجهه المرأة الأفغانية في هذه المرحلة الانتقالية الصعبة، وهي تبحث عن موقعها الطبيعي كإنسان قبل أن تكون مواطناً، هو الغموض المحاط بالنموذج الأفغاني القائم على تأسيس دولة للخلافة الإسلامية، حيث المرأة فيها من أضعف حلقاتها. إذ كيف ستتمكن هذه الدولة من الفصل بين الشريعة الإسلامية «كتنزيل إلهي» بفلسفته الروحية رفيعة الشأن في نفس كل مسلم، وبين أحكامها وتفسيراتها المختلفة التي جاءت تباعاً، حسب ظروف الزمان والمكان، وضمن سياقات وقراءات متشعبة «كشأن حياتي»، وصولاً إلى الحكم الرشيد، في صيغته العادلة، الذي لا يفرق بين النفس «البشرية» بناءً على الجنس «البيولوجي»… تيمناً واستناداً لقول الرسول الأعظم بأننا، أي المسلمين، «أعلم بشؤون دنيانا»، في إشارة صريحة لأمته بضرورة استخدام العقل والمنطق لتقرير المصلحة العامة وحمايتها، وفقاً لمقتضيات العصر، وضبط العلاقة بين هو «إلهي» وما هو «بشري». وأمام مثل هذا الإشكال، يقف العقل متسائلاً أمام المقصود من إقامة حكم الشريعة وحدودها عندما تأتي تفسيراتها البشرية في عكس اتجاه الفطرة الإنسانية، خصوصاً ما تعلق منها بكيان المرأة، كولايتها على نفسها وتصرفها بمالها، أو لدى اختيارها لشريك حياتها، أو في حرية تنقلها، أو عندما يحين وقت إسهامها في الشأن العام، أو حتى في اتخاذ أبسط القرارات المتعلقة باختيار مهنتها أو مسارها التعليمي، التي عادة ما تكون في نطاق الدولة الوطنية من المسلمات أو البديهيات المجرمة قانوناً… إذا تمرد التطبيق على النص!
واستمعنا كثيراً لمطالبات بضرورة تجديد الخطاب الديني وتنقيته من التشدد والتعصب لحماية النص المقدس وتفسيراته المنظمة للروابط الإنسانية من جهة، وبالتوازي مع ودون نقض أو تنقيص لكيان الفرد المواطن وعلاقته بدولته، من جهة أخرى. ولكن، نعود لنسأل، كيف سيتم ذلك؟ وما هي الصيغة التي من الممكن الوصول إليها للفصل بين ما هو ديني وما هو دنيوي بتنقية العقيدة السماوية من عقيدة الأعراف، أو التقاليد، أو الخرافات، أو العصبية بوصايتها المطلقة على الإرادة الفردية إحقاقاً لمجتمع «الفضيلة»، ونحن لا نجد إلى اليوم أي بوادر مبشرة لقدرة تيارات «الإسلام السياسي» على تقديم مشروع سياسي جامع تحت لواء «الدولة المدنية»، كما كان مقدراً لها عندما جاء النبي محمد (عليه أفضل الصلوات) بأول دستور مدني ينص على قيم التعايش السلمي والمساواة التامة بين أفراد المجتمع الإسلامي، ويضمن للجميع حرية المعتقد ويقر بمبدأ المسؤولية الفردية.
ولا يبدو أن مثل هذه الأوضاع أو الإشكالات التي تفرضها المصالح الدولية على مجتمعات بعينها بأنها تحرك ساكناً لدى المنظمات الحقوقية أو المراصد البحثية، التي لا يعلو صوتها إلا لما هو دون نقل الفصول الدراسية للمقابر، ونرى بأن العالم الغربي يسلك مسلك تجاهل العارفين لمثل تلك الانتهاكات، ولكنه لا يفتأ عن ممارسة إسقاطاته التي تميل للتعميم وباستنتاجات تُثقل كاهل «الإسلام»، خصوصاً ما تعلق منها بالمرأة المسلمة بشكل عام. فعلى سبيل المثال، ترى تلك العدسة الغربية، بأن المهر الذي يقدم للزوجة ما هو إلا سعر لسلعة تباع وتشترى، وبأن تعدد الزوجات ظلماً يمارسه الرجل الغني على الفقير، وبأنه سبب محتمل لاختلال التركيبة الديموغرافية في المجتمعات التي تطبقه بكثرة.
ولربما تكون مبررات تلك الاستنتاجات مرتبطة بالتفاوت في تطبيق حكم الشريعة بين المجتمعات الإسلامية، بناءً على ما يؤخذ أو يترك من اجتهادات، وهو أمر يستدعي مجدداً أن نقف أمامه بشيء من الصراحة، خصوصاً ما ارتبط منه بالقوانين الأسرية، كالسماح بزواج من هم دون الثامنة عشرة، والذين يصنفون بمقاييس اليوم بأنهم أطفال، وعدم تنظيم مسألة تعدد الزوجات كإخطار الزوجة المسبق بذلك، كحد أدنى، وبتعليق حق المرأة في التطليق بمقابل بذل يفوق المهر بعشرات المرات، وبتدني سن الحضانة للأطفال، بعد الانفصال، لينتقل الطفل وهو في عمر السابعة فقط من حضانة الأم إلى الأب. كما نجد في بعض الحالات ما يقيد حق المرأة في العمل والتعليم بربطه بإذن الزوج، لا بإذن الدولة… التي تتعهد بتوفير هذا الحق!
بدون شك، فإن الإسلام كرم المرأة ورفع من مكانتها في كل شأن ديني ودنيوي، ومن أجمل ما قرأت في هذا الموضوع متعدد الإشكال، ما كتبته الباحثة اللبنانية في الفكر الإسلامي د. حُسْن عبود، في كتابها «السيدة مريم في القرآن الكريم»، التي قامت بتحليل لغوي ونحوي رصين للتعرف على موقف الخطاب القرآني من المساواة بين الذكر والأنثى في حقوق العبادات والمساواة في التكليف، ووصفها لدراما الحج الذي شهد تاريخياً تجربة الأب إبراهيم في بناء البيت وتجربة الأم هاجر في السعي، وكما وصفته الكاتبة بأنه تبادل متحضر للأدوار، وعياً بالآخر، وهما يعيشان لحظة الطواف والسعي… والتي تجدها، وأجدها معها، قمة المساواة بين الجنسين في الإسلام… ومن القصص المؤثرة في السياق ذاته، القرار السياسي لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب، بتعيينه الشفاء بنت عبد الله قاضية على نظام الحسبة… وهو كما نرى طرح معاكس تماماً لما تشهده المرأة الأفغانية من تراجعات ستؤثر من دون شك على صحة المجتمع وأداء الدولة، إذا تقرر أن يكون تعليمها «تحت الأرض».