ثقافيه

أفلام الحركة… حين يصبح البطل أقوى من الحكاية

باستثناء تجارب قليلة مثل “رامبو” و”جون ويك” و”مهمة مستحيلة” فإن المتلقي لا يجد في بعضها إلا نوعاً من الإفراط في العنف

أشرف الحساني  

عصرنا هذا هو عصر النجوم الذين اخترعتهم السينما وسلطت الضوء عليهم (أ ف ب)

على مدى أعوام طويلة شهدت أفلام الحركة والـ “أكشن” تحولاً مفاهيمياً رهيباً في العالم، ذلك أن الأفلام الهوليوودية الجديدة تطرح كثيراً من القضايا والإشكالات المرتبطة بهذا النوع السينمائي الذي أضحت فيه هوليوود تحتل الصدارة من دون منازع، لا سيما وأن المشاهد يندهش من قدرة مؤسسات الإنتاج المعاصرة على اجتراح صور سينمائية متشابهة يغلب عليها كثير من التنميط البصري، إذ يتحول العمل السينمائي إلى ما يشبه السيرك البصري الذي تتداخل فيه الأحداث وتختلط فيه القصص والحكايات ويتكاثر اللغو وتتهاوى الأجساد، من دون أي جديد يذكر.

وباستثناء أفلام قليلة على سبيل المثال لا الحصر مثل “رامبو” و”جون ويك” و”مهمة مستحيلة” و”جاك ريتشر” وغيرهم، فإن المتلقي لا يجد في بعض الأفلام إلا نوعاً من الإفراط في العنف والضرب والقتل.

وعلى رغم أن هذه التوابل تشكل معمار أفلام الـ “أكشن” بصورة عامة، فمن الضرورة مراعاة حدود النص حتى يبقى العمل السينمائي معبراً عن وجهة نظر فكرية قبل أن تكون استعراضية، وفي هذه الحال يتحول الفيلم إلى مسرح بصري يستعرض فيه الممثلون أجسادهم وعضلاتهم، ويتبارى المخرجون في دغدغة قلوب المشاهدين من خلال الأكسسوارات البصرية والمؤثرات الصوتية، مما يجعل المتلقي يندهش من فرط العنف الذي تنضح به الصورة.

ممثل_هندي_يقلّد_فيلم_رامبو.jpg

تكثيف عنصر الحركة يجذب المتلقي مما يضمر ما باتت تمثله السينما للناس (مواقع التواصل)

لكن بغض النظر عن العنف المتوثب والكامن وراء مجمل صور سينما الـ “أكشن”، يظل هذا النوع الفيلمي خاضعاً في مجمله إلى ما يمليه السوق وليس ذاتية السيناريست والمخرج، بحكم أن أكبر عائدات السينما الهوليوودية منذ الثمانينيات تبقى حكراً على أفلام الحركة وليس الأنواع الفيلمية الأخرى.

غياب نقد متخصص

غير أن هذا التحول الذي عرفته أفلام الـ “أكشن” خلال الأعوام القليلة الماضية لم ينتبه إليه النقد السينمائي، ولم يعمل على تفكيكه وفق آليات معرفية تظهر عميقاً سوسيولوجيا هذا التحول، لأن النقد السينمائي عادة ما ينظر إليه باعتباره ترفاً جمالياً غير مؤثر في عملية المشاهدة، على رغم أن رأياً كهذا لم يعد مقبولاً اليوم أمام التحولات التي عرفها نظام إنتاج المعرفة، والذي أصبحت من خلاله الوسائط المعرفية ذات قيمة مؤثرة في نسيج العمل السينمائي.

اقرأ المزيد
  • “آخر أيام فان غوخ” تعود بعد ثلث قرن من غزوها السينما
  • قصف غزة “يحرق” شغف المصريين بالسينما
  • الصراع الهندي – الباكستاني في مرآة السينما
  • شخصية العالم الشرير بين السينما والواقع

ومشكلة النقد السينمائي في العالم ككل تكمن في كونه ينظر إليه بوصفه ينتمي إلى مجال الصحافة، فهو عبارة عن وسيط يقدم معلومات عامة عن الأفلام ويعمل على تبسيطها أمام المشاهد، كما يسهم في تسليط الضوء على سيرة المخرج في علاقته بالعمل السينمائي ومتخيله، ومثل هذه الآراء التبسيطية تقدم بها مهرجانات ومؤسسات وجامعات عملية النقد السينمائي، متناسية الأبعاد المعرفية التفكيكية التي يضطلع بها الناقد في سبيل تقديم كتابة معرفية عالمة بشؤون الصورة السينمائية.

ولم يرصد النقد السينمائي الغربي التغيرات الجمالية التي رافقت مفهوم أفلام الحركة وكيف تحولت من سينما تحتفي بالجسد وحركاته إلى وسيلة لتحقيق الربح التجاري عبر مختلف شاشات العالم، وثمة ملاحظات نقدية يسجلها المشاهد/ المتابع عن النقد السينمائي، وهي أنه خطاب لا يهتم بأفلام الـ “أكشن” والحركة من حيث الكتابة، بقدر ما يظل يتابع فقط أفلام السير الذاتية وغيرها من الأنواع الفيلمية الأخرى التي تحظى بمتابعات واسعة من لدن النقاد، ويكتب معظم النقاد العرب عن أفلام لمخرجين وممثلين معروفين وليس عن أفلام غريبة عن ذاكرتهم السينمائية.

إن الكتابة عن هذه الأفلام التي لا تحمل هوية سينمائية تمتحن قوة الناقد على التحليل والتأمل والفهم، كونها تزج به في علاقة فكرية تدفعه بصورة ضمنية إلى تجديد ثقافته السينمائية وفتحها على مناخات معرفية جديدة، ومن ثم يكتب النقاد فقط عن أفلام تحمل أبعاداً سياسية واجتماعية، على رغم أن النقد في هذه الحال يصبح ضرباً من الثقافة العامة التي تخلط الحديث العادي بالتحليل الفيلمي، حتى يصبح هذا النقد بمثابة بطاقة تقنية فارغة من التحليل والقراءة.

شباك التذاكر أولاً

إن أكبر مداخيل شباك التذاكر هي تلك التي تحققها أفلام الـ “أكشن”، وإلى حدود اليوم تحظى أفلام توم كروز وجيمس بوند وجاك ريتشر وماتريكس وغيرها بحضور واسع داخل الصالات السينمائية، لدرجة يخيل للمرء أنها كتبت وأنتجت لهذا الغرض التجاري المحض، إذ كانت أفلام حركة قليلة تستحق المشاهدة بسبب مدى حرصها على خلق نوع من التماهي بين تدرجات الحكاية وبين البعد الحركي المتمثل في العنف والمطاردة ودغدغة مشاعر المشاهد عن طريق المؤثرات البصرية.

أكبر_عائدات_الصالات_تحققها_أفلام_الحركة.jpg

إن أكبر مداخيل شباك التذاكر هي تلك التي تحققها أفلام الـ “أكشن” (مواقع التواصل)​​​​​​​

إن أجمل أفلام الحركة هي التي تعمل على الموازاة بين حركات الأجساد وعنفها وبين جمال الحكاية التي تجعلها قريبة من سينما المؤلف، فحين نشاهد سلسلة “جون ويك” أو “مهمة مستحيلة” لا تبهرنا فقط حركات أجسادهم، ولكن كيف يمكن للحكاية أن تسهم في تأجيج الحدث من الناحية الدرامية، أي إن الحكاية تلعب دوراً كبيراً في إنتاج جماليات بصرية للفيلم وتسير بصورة متوازية مع عنصر الحركة.

ويوماً بعد يوم تدفع شركات الإنتاج العالمية عدداً كبير من المخرجين إلى تغيير طريقة نظرهم إلى العمل السينمائي من خلال ضخ دماء جديدة في شرايينه عن تكثيف عنصر الحركة الذي يجذب دوماً المتلقي.

إن هذا الانجذاب يضمر الطريقة التي غدت تمثلها السينما بالنسبة إلى الناس، ذلك أنها لا تعدو أن تكون مجرد ترفيه واستهلاك، فالسينما بالنسبة إليهم ليست فكراً ولا وسيطاً بصرياً يدفع الناس إلى التفكير، ويقول الناقد عبدالصمد زهور “إن الاستعمال التجاري للنجم ينقل العبودية إلى السلعة بصورة سلسة، إذ تعمد شركات الإنتاج إلى خلق التماهي بين السلعة والنجم وصفاته وملامحه وبنيته الجسمية، وهي الأمور التي يتم صنعها من قبل أطباء ومراقبين، إذ أنقذ النجوم شركات عدة من الإفلاس بعد أن تصدرت وجوههم اللوحات الإعلانية، وتجاوز دور النجم إطار شاشة السينما فأصبح فاعلاً في تسيير حلقات البرامج الإذاعية والترويج لمنتجات والعمل الصحافي وحتى الانتخابات”.

ويضيف، “إن ولادة النجم تعتبر الحدث الأكبر ضخامة الذي عرفته الصناعة السينمائية، فعصرنا هذا هو عصر النجوم الذين اخترعتهم السينما وسلطت الضوء عليهم، وهكذا انقلب أمل تمثيلها للواقع إلى نسيان الواقع عبر إفراغه من الهم السياسي والثقافي”.