ثقافيه

الحرب على غزة تزيد من حملات التضييق الثقافي في ألمانيا

استقالة جماعية من معرض “دوكومنتا” الفني احتجاجاً على مناخ “القمع والإلغاء”

سمير جريس  

المعرض الألماني السنوي “داكوتا” (خدمة المعرض)

قلبت الحرب في غزة الحياة الثقافية في ألمانيا رأساً على عقب، وأصبح أي نشاط ثقافي له علاقة بالفلسطينيين، أو حتى العرب أو المسلمين محل شبهات، مما يدفع المسؤولين إلى التأكد من أنه “ليس معادياً للسامية”، ووفق هذا التعبير تم إلغاء عدد من الأنشطة الثقافية والسياسية، من معارض فنية ومسرحيات وأفلام وندوات أدبية، وصولاً بالطبع إلى التظاهرات المطالبة بوقف إطلاق النار في غزة ووقف جرائم الحرب المرتكبة.

لإلغاء الأنشطة الثقافية يكفي أن تثار شبهات حول أحد المشاركين لأنه “منتقد لإسرائيل” أو “معاد للسامية” – والحدود تتلاشى حالياً بين الأمرين – أو لأنه وقع مثلاً على بيان يدعم حركة مقاطعة إسرائيلBDS .

حدث هذا مع رواية الكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي “تفصيل ثانوي” التي كان من المفترض أن تكرم في معرض فرانكفورت للكتاب بجائزة “ليبراتور” المخصصة للكاتبات من “العالم الثالث” أو ما يسمى الآن “الجنوب العالمي”. غير أن الرواية التي احتفى بها سابقاً كثر من الصحافيين في وسائل الإعلام الألمانية، تحولت بين عشية وضحاها إلى رواية “معادية للسامية”، وتم “إرجاء” حفلة الجائزة إلى أجل غير مسمى.

الشيء ذاته حدث مع عديد من المعارض الفنية، مثل معرض للصور الفوتوغرافية يظهر حياة المسلمين في برلين، هذا المعرض تم تأجيله أيضاً إلى أجل غير مسمى، خشية الاتهام بالانحياز إلى المسلمين في الظروف الحالية. وهكذا أعلن المسؤولون عن المعرض أنهم يرون التوقيت غير مناسب، وعن عزمهم على تنظيم معرض آخر “أكثر توازناً”، يعرض مثلاً لحياة المسلمين واليهود في برلين.

فيلم “واجب”

20171113233321.jpg

من فيلم “واجب” الفلسطيني (ملف الفيلم)

المثال الثالث على “ثقافة الإلغاء” في ألمانيا كان قرار المحطة الأولى في التلفزيون الألماني ARD عدم عرض الفيلم الفلسطيني “واجب” (2017) من إخراج ماري جاسر الذي كان مرشحاً للأوسكار عام 2018، على رغم أن الفيلم لا يتعرض من قريب أو بعيد إلى الاحتلال الإسرائيلي أو حصار غزة أو سياسة الاستيطان، بل يعرض قصة عودة مواطن فلسطيني من إيطاليا حيث يعمل مهندساً معمارياً إلى الناصرة لحضور حفل زفاف أخته، هذا الفيلم الإنساني الذي يبين صورة للحياة في الناصرة، اعتبره القائمون على المحطة “غير مناسب للعرض في ظل الأحداث الأخيرة في الشرق الأوسط”. أثار هذا القرار استغراب كثر، ومنهم أحد محرري مجلة “دير شبيغل” الذي قال إن الفيلم “لا يدعو بأي حال من الأحوال إلى العنف”، ولا يمكن اعتباره “بروباغندا فلسطينية”.

هذا هو الواقع الثقافي الآن في ألمانيا، وهذا ما أطلق عليه الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجك في كلمته لدى افتتاح معرض فرانكفورت للكتاب “حظر التحليل” في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية. من يخرج عن الخطاب الإعلامي السائد يعتبر في أحسن الأحوال “غير مناسب الآن”، هذا إن لم يوصم بمعاداة السامية.

الفيلسوفة الأميركية (اليهودية) جوديث بتلر قدمت تفسيراً للإفراط في استخدام وصف “معاداة السامية” في ألمانيا. وكانت الفيلسوفة تعرضت إلى انتقادات شديدة في ألمانيا، فأرجعت ذلك في حوار لها مع صحيفة “دي تسايت” إلى كونها “يهودية معادية للصهيونية”، ثم أضافت “عبر الدعم غير المشروط لإسرائيل يريد عديد من الألمان إثبات أنهم ليسوا من معادي السامية. ولهذا يهاجمون كل شخص يطالب بالعدالة لفلسطين”.

معرض دوكومنتا الفني

تهمة معاداة السامية، حامت أيضاً حول الكاتب والناقد الفني رانجيت هوسكوت – أحد أعضاء لجنة اختيار الأعمال الفنية التي ستعرض في “دوكومنتا 16″، أحد أهم المعارض الفنية في العالم – لأنه من مؤيدي حركة مقاطعة إسرائيل، وهو ما حدا بالكاتب الهندي إلى تقديم استقالته من اللجنة، وتبعته الإثنين الماضي زميلته في اللجنة، الفنانة الإسرائيلية براخا إتنغر. واليوم أعلنت وسائل الإعلام تقديم كل أعضاء اللجنة استقالاتهم في رسالة وجهوها إلى المسؤولين عن “دوكومنتا”.

اقرأ المزيد

جاء في الرسالة أن الفن في حاجة إلى ظروف تتيح عرض الرؤى المتنوعة ووجهات النظر المختلفة، وذلك حتى يستطيع الفن “المساهمة في الواقع الثقافي والسياسي والمجتمعي المعقد في عصرنا”.

وتتطرق الرسالة إلى الحملة التي تعرض لها زميلهم الناقد الفني الهندي هوسكوت والتي أجبرته على تقديم استقالته، ولهذا عبر الموقعون الأربعة عن شكوكهم الكبيرة في ما إذا كانت الظروف في ألمانيا تتيح لهم تنظيم الدورة المقبلة من المعرض.

وأضافوا: “يتطلب الفن اشتباكاً نقدياً، متعدد وجهات النظر، مع الأشكال والمضامين المتنوعة” حتى يستطيع أن يحقق أهدافه. “إن التبسيطات الأحادية والقاطعة لسياقات معقدة” تهدد بالقضاء على ذلك الاشتباك في مهده. وأشار الموقعون إلى الانفتاح الفني الذي تمتعت به الدوكومنتا في السابق، وهو ما أدى إلى ترسيخ مكانة المعرض عالمياً. وأعرب الأعضاء عن تفهمهم “المسؤولية الألمانية النابعة من الماضي” و”الحساسية الكبيرة تجاه كل التوجهات المعادية للسامية”، لكنهم انتقدوا في الوقت ذاته “إساءة استخدام” هذه المسؤولية لوأد نقاشات غير مرغوب فيها في مهدها. وهكذا تحل التبسيطات الساذجة والأحكام المسبقة محل النقاش والجدل.

وأضاف الموقعون الأربعة: “إن هذا المناخ العاطفي والفكري الذي يؤدي إلى تبسيط الحقائق المعقدة، وما يفرزه من تقييدات” هو الذي حملهم على تقديم الاستقالة، لاعتقادهم أن “الظروف الحالية في ألمانيا لا تسمح بتبادل منفتح للأفكار”.

وعلى ما يبدو لن يتغير في القريب العاجل هذا المناخ الفكري، وكلما طال أمد الحرب في غزة زادت حملات التضييق، ومحاولات فرض رؤية واحدة للأحداث في العالم.