ثقافيه

“سأبقى هنا” تروي معاناة شعب تحت نير الاحتلال

الإيطالي ماركو بالزانو يجسد الصراع على الحدود وسط صعود المصالح السياسية والاقتصادية

لنا عبد الرحمن  

الروائي الإيطالي ماركو بالزانو (صفحة الكاتب – فيسبوك)

تحيط رواية الكاتب الإيطالي ماركو بالزانو “سأبقى هنا”، (ترجمة أماني فوزي حبشي، دار الكرمة) بأكثر الموضوعات تأثيراً منذ فجر التاريخ البشري، وحتى الزمن الحالي. إنه صراع “الأنا”، من أجل الوجود الإنساني المهدد بالفناء. تتداخل ملامح هذا الوجود في رواية بالزانو، وتتشكل بين الزمان والمكان والذات، مع عنوان بسيط اختاره المؤلف، ليشكل عتبة النص المجازية المعبرة. ففعل “سأبقى” يجمع بين المستقبل والأنا، أما كلمة “هنا” فإنها تشير إلى بلدة “كورون” التي تقع على الحدود بين النمسا وإيطاليا. اختار الكاتب مرحلة تاريخية سبقت تحولات كبرى، كي يحكي قصة واقعية مؤثرة للغاية عن أشخاص عاديين، حاولوا أن يعيشوا حياة طبيعية عاشها آباؤهم وأجدادهم كمزارعين لأراضيهم، لكن تغيرات العالم من حولهم حالت دون ذلك. إنه عام 1923، بعد سنة واحدة من وصول موسوليني إلى الحكم، وبداية انتشار أفكار عن العنصرية والكراهية، التي سوف تؤدي في سنوات لاحقة إلى حرب عالمية ثانية، طال دمارها جميع أنحاء أوروبا.

كورون، هذه البلدة الصغيرة التي تقع في النمسا أصلاً، تم ضمها في ذاك الحين إلى إيطاليا، ونشر جنود موسوليني منشورات تحذر الناس من التحدث باللغة الألمانية. هكذا يُصبح مجتمع القرية الصغيرة ممزقاً بين الفاشية الإيطالية والنازية الألمانية.

الهوية واللغة

31e08F7g6tL._SR600,315_PIWhiteStrip,BottomLeft,0,35_SCLZZZZZZZ_FMpng_BG255,255,255.png

الرواية بالترجمة العربية (دار الكرمة)

وسط هذه الأجواء، تتوق البطلة الساردة ترينا، البالغة من العمر سبعة عشر عاماً إلى حياة مختلفة. لقد كرست نفسها كي تُصبح مدرّسة، ولكن في العام الذي أصبحت فيه مؤهلة لممارسة مهنة التدريس، ألغى نظام موسوليني استخدام اللغة الألمانية، كلغة تُدرس في الأراضي النمساوية التي تم ضمها لإيطاليا. وفي تحدٍّ سافر لهذا القرار القاسي المتمثل في إضفاء الطابع الإيطالي القسري، قررت ترينا العمل في شبكة سرية من المدارس، تُغامر بشجاعة، وتعرض نفسها لخطر القبض عليها وسجنها. وعلى رغم هذه التحولات المخيفة بالنسبة إلى شابة صغيرة، فإنها تُصر على الاستمرار في المغامرة، متحلية بسبب الحب، بروح مقاومة. لنقرأ: “في صباح أحد الأيام وجدنا أنفسنا أمام القس، قال إننا إذا أردنا التدريس بالفعل لا بد أن نذهب إلى سراديب الموتى. الذهاب إلى المدافن يعني أن نعمل مُدرسات في الخفاء. كان هذا أمراً غير قانوني، ويعني الغرامات، والتعرض للضرب، ويمكن أيضاً أن ينتهي أمرنا على الحدود في إحدى الجزر النائية… لم أكن قط شجاعة، ولكنني ذهبت لأبدو جميلة في عيني إيريش، فقد سمعته يتحدث بأنه يتابع التجمعات السرية، ويزودها بالصحف الألمانية”.

تقدم الرواية تصورات الحياة في ظل الاحتلال والقمع والخوف، ثم الحرب. وكيف يكون على الأفراد أن يواجهوا مصائرهم، مع محاولات للنجاة بحياتهم وأحلامهم المهددة بالزوال.

تتزوج ترينا من إيريش وتصبح أماً لطفل وطفلة، لكنها تعيش مرة أخرى في حالة غياب الأمان؛ بعد أن أعلنت ألمانيا عن “القرار العظيم” في عام 1939، وتمت دعوة سكان البلدات الحدودية، مثل بلدتها، للانضمام إلى الرايخ ومغادرة إيطاليا. هكذا تنقسم بلدة “كورون”، وتنشأ انقسامات متزايدة بين سكانها؛ أولئك الذين اختاروا البقاء، مثل ترينا وعائلتها، يُنظر إليهم على أنهم خونة وجواسيس؛ لحدّ أنه لم يعد بإمكانهم مغادرة المنزل من دون التعرض للإساءة، فيما يأمل العديد من جيران ترينا في أن يقوم هتلر بغزوهم وإنقاذهم. ولكن عندما تأتي الحرب، تُسبب المزيد من العذابات والألم، أكثر مما كان يمكن أن يتخيلوه.

9788806237417-475x500-1.jpg

الرواية الإيطالية (أمازون)

تشتبك الأحداث السياسية الخارجية، مع مصير عائلة ترينا، ففي أحد الأيام تعود الراوية إلى المنزل وتكتشف أن ابنتها مفقودة. لكن بعد مرور أسابيع من التيه والجنون بحثاً عن ماريكا، تتلقى رسالة من ابنتها، تخبرها فيها أنها اختارت الفرار مع عمتها هرباً من الحرب. هذا القرار الفردي يؤدي إلى تشظي أفراد الأسرة واقعياً ونفسياً: “منذ ذلك اليوم تغير الألم. مزق مايكل صورتكِ، وطلب منا ألا نحدثه عنك مرة أخرى. توقف إيريش عن الجري ذهاباً وإياباً. ولم يحاول أن يترك البلدة، ولا أن يبحث عنك مرة أخرى. أنا أظل في الفراش والمصاريع شبه مغلقة، والباب موصد بالمفتاح. شعرت بأنني بلا دموع، طوال الوقت أعيد قراءة خطابك الذي أحمله دائماً معي”.

تحديات حقيقية

اختار بالزانو أن تقوم ترينا بسرد الأحداث من وجهة نظرها، إنها امرأة تنظر إلى حياتها الماضية، ولا تزال تحزن بشدة على ابنتها الغائبة منذ زمن طويل. تتحدث بنبرة مشبعة بالخسارة والاستسلام، إضافة إلى الحكمة المكتسبة من خلال المعاناة وحتمية استمرار الحياة. الرواية ككل مكتوبة منذ البداية على شكل رسالة إلى ابنتها المفقودة، التي يملأ شبح حضورها الصفحات. تروي ترينا قصتها، وما حدث في كورون من وقائع دامية بسبب الحرب والتهجير، وكأنها تتحدث مع ابنتها الغائبة. هكذا تتشابك قصة ترينا مع قصة كورون، القرية الزراعية الصغيرة التي نشأت فيها، وحلمت بحياة مشرقة وسعيدة، فتبدل مصيرها من حال إلى حال بسبب الحرب. تموت أحلام ترينا موتاً بطيئاً، ويخنقها واقع الصعود والسقوط للحكام المستبدين، ولامبالاة جيرانها تجاه التحديات السياسية المفروضة. زوجها إيريش فقط هو الذي يرى أن على الرجال الذهاب إلى الحرب عند الضرورة، كانت أخلاقه وتجاربه المروعة كجندي سابق تساعده على الأمل بالمستقبل والايمان بالتغيرات المقبلة، وفي خضم المآسي التي تحاصر الجميع مكانياً وزمانياً. يقول: “الفاشيون يعلمون أن هناك خطر الحرب، وأننا نحن الرجال سرعان ما سنرحل لنحارب. هنا لا أحد يفهم الإيطالية… لقد جاء اليوم الذي أجبرنا فيه من أجل الحفاظ على كرامتنا أن نرتكب جريمة قتل”.

اقرأ المزيد
  • الروائي الإريتري سليمان الدنيا يرصد معاناة اللاجئين
  • الروائي المستشرق ماتياس إينار يسترجع تاريخ العنف

مع احتدام الحرب ثم انتهائها، تأمل ترينا في أن تتمكن عائلتها من العيش بهدوء، حتى لو لم يتمكنوا من التصالح مع كل ما كان. ولكن هناك أخطار أخرى تهددهم، تتمحور حول شركة إيطالية جاءت لبناء سد على النهر. لقد ظل خطر بناء السد الذي يهدد كورون بالغرق، يلوح في الأفق لفترة طويلة جداً، على رغم قناعة السكان المحليين بأنه لن يتم بناؤه أبداً. تشرع شركة “مونتيكاتيني”، في إجراءات تنفيذ بناء السد، ويتم تشريد العائلات، وطردهم من بيوتهم بعد بناء السد وما تسبب به من خراب. يموت 26 عاملاً أثناء العمل، لا يأتي أحد على ذكرهم، تتجاهل الشركة مسؤوليتها الأخلاقية والمعنوية عما حصل من فيضانات وموت وتشريد. يبدو مصير كورون انعكاساً لما تفعله الفاشية، إذ تجسم واقع إحدى المدن العديدة التي سحقتها المصالح السياسية والاقتصادية. ويبدو سكانها، هؤلاء الناس الطيبون القادرون على مجابهة الظلم، مثل أغلب الناس الطيبين، فإنهم يفضلون الفرار، أو دفن رؤوسهم في الرمال حتى فوات الأوان.

دمج بالزانو في هذه الرواية المؤثرة لحظات التحولات التاريخية الكبرى مع حياة الناس العاديين، هناك بلدة تتزعزع هويتها بين أن تظل نمساوية، أو أن يُفرض عليها الانتماء لإيطاليا، بما يشمل هذا التحول من لغة وثقافة وهوية. وهنا يقع الأفراد في انشطار، بين حقيقتهم، وما يتم فرضه عليهم. ولعل ما يتناوله بالزانو في بلدة “كورون”، ينطبق على معظم البلدات الأوروبية الحدودية، وما حدث لها خلال الحرب العالمية الثانية، وقد سبق للكاتبة المجرية أغوتا كريستوفا أن تناولت تحولات الهوية الثقافية في روايتها “الدفتر الكبير”.

اختار الكاتب أن يضع في ختام الرواية، خريطة توضح موقع بلدة كورون الجبلية على حافة الحدود السويسرية النمساوية، وأن يضيف ملحوظة حول الأسباب الذاتية التي دفعته إلى كتابة هذه الرواية، قائلاً: “قصة هذه الأرض، أو قصة السد، بدت لي على الفور، ذات قيمة عامة للتحدث عن الإهمال، وعن الحدود، وعن استغلال السلطة وعنفها، وعن أهمية الكلمات وقدرتها”.

تظل الإشارة إلى الترجمة الرشيقة، التي قامت بها المترجمة أماني فوزي حبشي ناقلة الرواية عن الإيطالية، مع مراعاة دقيقة لاختيار المفردات المعبرة عن الثقافة الإيطالية، بخاصة في الحوارات التي جاءت سلسة ومنسابة.