قرن على دولة العراق.. السؤال المستحيل

1

رستم محمود17 مايو 20

عملياً، كان مؤتمر القاهرة لدبلوماسيّ المستعمرات البريطانية، الذي عُقد في ربيع العام 1921، لتحديد ما يجب على بريطانيا فعله بشأن المناطق التي احتلتها خلال الحرب العالمية الأولى، كان الحدث الذي أسس دولة العراق الحديثة بشكلها الحالي. خلال ذلك المؤتمر الذي ترأسه وزير المستعمرات البريطاني وقتئذ ونستون تشرشل، تقرر من طرفٍ تعيّن الحدود السياسية للكيان العراقي، بعد جدالات طالت لقرابة خمسة سنوات، بشأن ضم ولاية الموصل -ذات الأغلبية الكُردية- من عدم فعل ذلك. كذلك أُقر المؤتمر تنصيب الأمير فيصل بن الحُسين ملكاً على العراق، واستبعد منافسيه الآخرين، الشيخ خزعل بن جابر أمير المحمرة وهادي باشا العمري، حيث كان الثلاثة، لغير صُدفة، من عائلات غير عراقية الأصل.

قبل ذلك الحدث، كان “العراق” مُجرد تعبير عن جغرافيا وديموغرافيا غامضة للغاية. كان العثمانيون ومن قبلهم العباسيون يقصدون بها الفضاء المحيط بمدينة بغداد والعتبات المقدسة جنوبها. كذلك كان الأمر بالنسبة للجيش البريطاني، الذي أحتل بالتقادم مناطق ما صار اسمه “العراق” طوال الأعوام 1914-1918. فقد كان البريطانيون قد عينوا حكومة محلية في مدينة بغداد، وصاروا يواجهون الانتفاضات المحلية واحدة تلو الأخرى، دون أي يكون لديهم أية رؤية لما يُمكن ويجب أن تكون عليها المرحلة التالية لاحتلالهم لتلك المنطقة. فالخرائط الأولى لتوافقات سايكس-بيكو عام حتى العام 1916، كانت تربط بغداد بجنوبها فحسب، بينما تُعتبر أغلبية المناطق السُنية العراقية جزء من منطقة النفوذ التي تضم حتى الأردن الحالية وصولاً للبحرين الأبيض والأحمر، فيما كانت بيروت جزءا من الساحل وأواسط الأناضول، وسوريا الداخلية تضم الحيز الغربي من ولاية الموصل، بما فيها المدينة نفسها!

بعد قرنٍ كاملٍ بالضبط على انبلاج وتثبيت الكيان العراقي على ما هو عليه، تبدو المعضلتين التأسيسيتين تلكم حاضرتنا وتنهشان جسد الكيان العراقي، مثلما كانتا على الدوام: تنازع أهلي، أساسه هيمنة جماعة أهلية ما واحتكارها لسلطة الحُكم المركزية. الأمر الذي كان يفرز على الدوام ارتباطاً للجماعات الأهلية العراقية بامتداداتها خارج العراق، أكثر من ارتباطها بغيرها من الجماعات الأهلية الشريكة داخل العراق، بالإضافة لوعيها وتمركزها السياسي حول هوياتها الأهلية أكثر من يناظرها من فضاء “وطني”. المسألة الأخرى تتعلق بالخلاف الشديد بشأن حدود هذا الكيان العراقي، سواء بالعلاقة مع الكيانات المحيطة، أو بين الجغرافيات الداخلية العراقية نفسها.

غطى ذلك قرناً كاملاً من تاريخ هذا البلد، الذي يُمكن تقسمه إلى أربعة مراحل متمايزة، كانت كل واحدة منها تفجر مسألتي الصراع على الحدود وعلاقات القوة بين الجماعات الأهلية بطريقتها، لكنها متطابقة فيما بينها في أنتاج ذلك والعيش عليه، كقضيتين مركزيتين تدور حولهما باقي تفاصيل الحياة العراقية.

افتتح العصر الملكي نموذج “الحل/المجزرة” بحق الجماعة الأهلية المتمردة، عبر “مذبحة سيميل” بحق الآشوريين “العراقيين” عام 1933. كذلك كرس ذلك العصر الهوية الطائفية للسلطة في البلاد، حيث قرر أن تكون الكلية العسكرية شبه مُحتكرة لأبناء الطائفة السُنية، وتالياً صارت العقيدة السرية للجيش العراقي هو تابعيته للطائفة السُنية. كذلك كانت هوية الوزارات الحاكمة، إذ لم تتشكل إلا أربع وزارات برئاسة شخصية شيعية، من أصل ستة وأربعين وزارة في العهد الملكي “الديمقراطي!”.

خلال عهد الانقلابين القوميين، ثُبّت الأكراد كأعداء وظيفيين ومُطلقين لما اعتبره زعماء الحُكم وقتئذ ملكاً مطلقاً لجماعتهم القومية “العربية”، خاضوا حروب إبادة مفتوحة ضد “مواطني بلدهم” في سبيل تجاوز حقهم الطبيعي في الشراكة. لكنهم قبل ذلك افتتحوا عصر إمحاء الحدود المعينة للكيان العراقي، عبر تجاوزه نحو التطلع للكل الإمبراطوري العربي المُتخيل، الذي كان يعني بالضرورة نفي حدود الكيان العراقي.

الزمن البعثي كان كثافة مطلقة لطائفية العصر الملكي وقومية الانقلابين العسكريين. فكان العراق وسلطته الحاكمة في عهدهم مجرد حرب مفتوحة ضد أكراد العراق وشيعته. وبشكل موازٍ، آلة ضحمة لنفي نفسه، عبر تحويل الدولة إلى مُجرد “قُطر”، الذي هو القطرة التي انفصلت عن الجسد الكُلي، حسب المخيلة البعثية، وحيث أن النضال كله يجب أن يكون لمحاربة حدود وأطار القطر نفسه، لتحطيمه وإعادة إذابته في الجسد الكُلي المتخيل!

 ثمانية عشر عاماً مع العراق الجديد بعد العام 2003، والمحصلة أمرين واضحين فحسب: كامل المناطق السُنية خراب عميم، مُدن وقصبات مُدمرة تماماً، وملايين المهجرين من سكانها في كل حدب. الأمر الآخر هو الرفض المطلق لتعيين الحدود النهائية بين السلطة المركزية وإقليم كردستان، بالرغم من المواد الدستورية الواضحة تماماً في ذلك الاتجاه، لكن النواة الصلبة لسُلطة الحُكم مُصرة على إبقاء مسألة الحدود كجرح داخلي مفتوح، لا تفرز إلا العنف والكراهية.

طوال قرن كامل، منذ تأسيس الكيان العراقي بإرادة خارجية تماماً وحتى الآن، بقي سؤال الأكبر والأهم في “عالم الاجتماع السياسي العراقي” دون إجابة واضحة، أو حتى دون أية إجابة: ما الدور الذي لعبه ذلك المستوى شبه المُطلق من عدم التجانس بين الجماعات الأهلية داخل العراق، التي تراكب عدم تجانسها مع مستوى عالٍ من الاصطناعية التي رُسمت حدود العراق حسبها، وحيث على ذلكم الأساسين تكون العراق الحديث، ما دورهما في أنتاج واستمرار كل هذا البحور من العنف والكراهية والانقلابات العسكرية والصراعات الطائفية والفاشية القومية والشعبوية الخطابية، ومعها طبعاً اشكال المجازر والمقابر الجامعية وتحطيم المُدن وتهجير السكان وإبادة الأقليات الدينية والقومي ..الخ ؟؟!!، التي بدأ وسار عليها الكيان العراقي في كل لحظة وتفصيل طوال قرن كامل، هو كل حياته.

ليس من إجابة واضحة على ذلك، لا معرفية ولا سياسية ولا إيديولوجية. على العكس تماماً، ثمة محاولات مستميتة لطمر ذلك السؤال واستبعاده قدر المُستطاع، في كافة مناحي وتفاصيل الحياة العامة العراقية، أو المهتمة بالعراق. ليس ثمة من إجابة ليس لصعوبة السؤال، بل لما قد تفرزه الإجابة من مضامين سياسية.

فالقول بتلك العلاقة العضوية بين الأمرين، بين شكل العلاقات الصراعية الدائمة بين الجماعات الأهلية واشكال الحدود ضمن الدولة العراقية، وبين كل ما أفرزه العراق من فظائع خلال تاريخه، سيستوجب التفكير وتحديد الموقف من العراق نفسه، ككيان ووجود، الذي هو ليس بداهة مُجردة، بل أقرب ما يكون لصُدفة قاسية، لم ينتج إلا الآلام، لقرن كامل، ولذويه الأقربين قبل الآخرين. وأن الناس يجب أن يكون أكثر جاسرة لتقبل الصُدف وكأنها مُقدسات، خصوصاً وأنها تحطم حيواتهم كل حين.

التعليقات معطلة.