ثقافيه

“أكثر من طفل” رواية صينية عن البشر غير المرغوب فيهم

شين يانغ تفضح سياسة الحد من الانجاب التي جلبت كوارث اجتماعية

علي عطا  

رواية عن الحد من الإنجاب في الصين (رويترز)

هناك ندرة في الأعمال الأدبية التي تناولت الكوارث الاجتماعية التي خلَّفتها سياسة الطفل الواحد، التي جرى تطبيقها في الصين لما يزيد عن ثلاثين عاماً. تلك “الحقيقة” تختم بها شين يانغ روايتها التي صدرت أخيرا مترجمة تحت عنوان “أكثر من طفل”، (ترجمة يارا أيمن – دار العربي– القاهرة). وهذه الرواية التي تعدّ سيرة ذاتية لكاتبتها تتحدث بالنيابة – إذا جاز التعبير – عن الملايين “الذين ولدوا كأطفال زائدة وعاشوا في الخفاء، وكانوا بمثابة عشب شمسي ازدهر بتألق في الظلام”. والحقيقة أن هذه الرواية التي تقطر ألما ذاتياً في المقام الأول، جديرة بأن توصف بأنها “صوت جيل الصين الخفي”. وهي من هذه الزاوية تستدعي إلى الأذهان رواية النوبلي مو يان التي ترجمت إلى العربية تحت عنوان “الضفادع”، وبطلتها (العمَّة) التي قامت بدور الرقيب على هذه سياسة الطفل الواحد، فكانت تلاحق النساء الحوامل لإجهاضهن.

 في رواية “أكثر من طفل” هناك أيضا “عمّة”، لكنها على عكس بطلة رواية مو يان، تساعد في إخفاء الطفلة “يانغ” عن السلطات، ويساعدها في ذلك زوجها وأبناؤها المولودون قبل فرض الحظر على ولادة أكثر من طفل لكل أسرة، وتستصدر لها بطاقة هوية باسم مستعار لتتمكن من الانخراط في مختلف مراحل التعليم الرسمي. “يانغ”، اسمها باللغة الصينية يعني الشمس، وترتيبها الثانية بين أخواتها الأربع. رسمياً، ما كان لها أن تولد، لا هي ولا الشقيقتان اللتان تصغرانها، لكنّ والديها كانا يصران على إنجاب ذكر، انطلاقاً من ثقافة ريفية متجذرة ترى أن الولد أهم من البنت، ومن دون مراعاة أن ذلك الوعي سيجلب على الأسرة كوارث جمة، وسيخلف ندوبا ًفي نفوس بناتها يصعب أن تلتئم. تسرد يانغ حكاية أسرتها، وتتخلص تدريجاً من شعورها بالاستياء من أسرتها، بعدما أنضجتها المحن: “لولا الثورة الثقافية لم يكن والداي سيتزوجان، ولولا سياسة تنظيم الأسرة، كانت حياتي ستصبح طبيعية. لو لم تشتر لي عمتي بطاقة “هوكو”، وتجعلني ألتحق بالمدرسة وأتعلم لكانت حياتي مروعة. وما جعلني أرى المدرسة مهمة للغاية، هو أنها علمتني كيف أرى كم كانت أسرتي الصغيرة مقيّدة. علمتني كيف أكون سبباً في التغيير هناك، وكيف أضيف لهم شيئاً”.

بناء دائري

7267aa30-74fa-4325-b049-e9803f51b462.png

الرواية بالترجمة العربية (دار العربي)

في العام 1971 أطلقت الحكومة الصينية حملة لتنظيم الأسرة، أصبحت بحلول عام 1982 سياسة وطنية أساسية. هكذا تبدأ مقدمة رواية “أكثر من طفل” والتي أعطتها المؤلفة المولودة في بداية العام 1986، عنواناً هو “وداعاً لطفولتي، وداعاً للعهد القديم”. ومضمون تلك المقدمة – إذا نحينا عنوانها جانباً – يوحي بأنها تمهد لعمل بحثي، ومن ثم ما كان لها لزوم، بما أننا بصدد عمل روائي، حتى مع مراعاة أنه يقوم على أحداث وقعت بالفعل. وهو ما تؤكده كاتبتها التي درست الأدب وتخصصت في اللغة الإنجليزية، قبل أن تدرس كتابة السيناريو في أكاديمية بكين للأفلام، وهي تعيش الآن في شنغهاي. شين يانغ حرصت كذلك على أن يتضمن عملها الأدبي ملحق صور لها ولأفراد عائلتها في مراحل زمنية وأماكن مختلفة، بعدما ختمت روايتها بما يؤكد بناءها الدائري، القائم على خلاصها الشخصي وخلاص الذي نابت عنهم، في فضح ما ترتب على فرض سياسة الطفل الواحد في الصين: “أريد أن أدون كل شيء سمعته، ورأيته، ومررت به. أريد أن يسمع العالم كله أصواتنا”. وما ساعدها على بلوغ ذلك الإصرار هو نجاحها – كما تقول – في فصل نفسها عما وقع عليها من ضرر، ومغادرة مشاعر الاستياء من والديها والمجتمع حتى لا تتحكم في ما تبقى من حياتها. ولدت شين يانغ في مدينة شاندونغ، قضت قسطاً من طفولتها مع جديها لأمها، قبل أن تصحبها عمتها لتعيش معها في نانيانغ، ولتعاملها على أنها “مبذرة، طماعة، مستهزئة، غبية، حساسة، مزعجة، ووقحة للغاية”.

في تلك الأثناء، كانت الطفلة “يانغ” في ذروة حرمانها من الحنان، الذي يحتاجه كل طفل، حتى أنها في ما بعد، انتبهت إلى أن أمها التي لم تكن موجودة في واقعها، كانت أيضاً غير موجودة في أحلامها. ثم إن الولد الذي كان الأقرب إليها في مرحلة الدراسة الابتدائية، مات قبل أن يصل إلى ختام تلك المرحلة. ولم تتحقق لـ “يانغ” مساحة خاصة بها في البيت الذي أجبرت على العيش فيه إلا بعد أن تزوجت ابنة عمتها وآلت إليها غرفتها. كانت آنذاك في الحادية عشرة من عمرها. أما اسمها الحقيقي فحرمت منه في الأوراق الرسمية، وبين أترابها ومعلميها. ولكي تلتحق بالمدرسة الابتدائية، اشترت لها عمتها بطاقة هوية مزورة باسم “وو شانينغ”، فكرهت ذلك الاسم، بينما كانت تتابع “الأشياء المروعة” التي كان يرتكبها مسؤولو جهاز تنظيم الأسرة في القرية التي تعيش فيها، والقرى الأخرى المجاورة. ومن ذلك أن إحدى النساء أنجبت ست بنات، واحدة تلو الأخرى، فهدد مسؤولو تنظيم الأسرة عائلتها بمصادرة الحبوب التي خبأوها في القبو، إن لم يسلموهم الطفلة الأخيرة ليقدموها هدية لأسرة محرومة من الإنجاب، فاضطروا إلى الخضوع لطلبهم حتى لا يتضوروا جوعاً.

اقرأ المزيد

كانت يانغ تأمل أن تعود إلى والديها بعدما اجتازت المرحلة الابتدائية، لكن قريتهم هدمت ونقلوا إلى مسكن بالإيجار. قالا لها: انتظري حتى تنتهي المرحلة الإعدادية. أظهرت تفوقاً في مادة اللغة الإنجليزية. وقعت في حبها بجنون – كما تقول – بفضل معلم اختار نهجاً غير تقليدي في تدريس تلك اللغة. لكن ظلت حصتها المفضلة هي حصة اللغة الصينية. مديرة المدرسة المعلمة “تشاي” عاملتها بقسوة في البداية ثم ما لبثت أن اتخذتها مثلاً على ما يمكن أن يحققه المرء، إن هو تحلى بالعزيمة الكافية. حدث ذلك فيما كانت عمتها تواصل القسوة عليها وتقول لا يجب أن ندلل تلك الشقية بالملابس الجديدة. لطالما هربت أمها من عمليات الإجهاض القسرية، لكن العائلة لم تستطع الهروب من غرامات تنظيم الأسرة. في يناير(كانون الثاني) 1991 أجبر الأب على دفع غرامة مالية، وأرغمت الأم على التعقيم.

وبعد أن عادت إلى والديها قالت يانغ لأبيها ذات مشاجرة معه: “لم أطلب أبداً أن آتي إلى هذه الدنيا. أنت من أصررت على إنجاب فتاة تلو الأخرى، فقط لأنك أردت صبياً. وبمرور الوقت أدركت يانغ أن الأب “شين وينمينغ” والعمة “شين واندجي” وجهان لعملة واحدة، في ما يخص ببخل كل منهما، وقال لأختها الكبرى: “لهذا يجب أن نستقل مادياً في أسرع وقت ممكن”.

قسوة الأب

قالت يانغ أيضاً وهي تحكي سيرتها الذاتية: “لقد عانيت من الإيذاء اللفظي والجسدي. استغرق مني الأمر عاماً واحدا فقط منذ عودتي إلى شاندونغ لأرى الوحشية التي كرهها الجميع للغاية. لقد ركلني – تقصد أباها – بكل قوة لأطير من مكاني، ومن ثم دمر علاقته بي. جرح تقديري لذاتي الذي كان هشاً بالفعل حين تحدث عني إلى أقارب لنا، باعتباري لصة”.  

تكسر شين يانغ الصمت إزاء الذين ولدوا بشكل غير قانوني خلال فترة سياسة الطفل الواحد في الصين، وتبرز في الوقت ذاته المأساة التي فرضتها سياسة طفل لكل عائلة على كل أمهات الصين. تقول في المقدمة: “وفقاً للإحصاءات الرسمية، هناك 13 مليون مواطن صيني غير قانوني، لكن من الصعب تصديق الأمر، فتعداد الصين 1،4 مليار نسمة، لذا لا بد أن يكون العدد أكبر من هذا، لا بد أن يتحمل أحدهم مسؤولية مأساة هذه الفترة، لأن التاريخ لا يمكن محوه ببساطة. ينبغي على الصين ألا تنسى ماضيها القريب، وهي تتطور وتمضي إلى الأمام، وإلا لن تصبح المواليد الزائدة سوى ذكرى شعبية بعد إلغاء سياسة الطفل الواحد”.