لاتصال الهاتفي الأخير بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان يوحي بأن الأميركيين بدأوا التخلي عن دعمهم أكراد سورية. قالت أنقرة بعد الاتصال إن ترامب تعهد بذلك، وقالت واشنطن إنها قررت أن تعدل دعمها على الأرض لحلفائها في سورية. إنها واشنطن نفسها التي سبق أن انكفأت عن حلفائها الأكراد في العراق، وعن أي دعم للتشكيلات السياسية والعسكرية للمعارضة السورية بعد أن كانت وضعت «خطوطاً حمراً للأسد» تحولت خضراً بعد أيام قليلة. وهي واشنطن أيضاً التي لم تبد اكتراثاً بمسيحيي لبنان ووضعتهم بين يدي المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، وهي فعلت مع الفلسطينيين في مفاوضاتها كل صنوف التخلي مجتمعة.
واشنطن تؤسس لانعدام ثقة كبير في موقعها، على رغم أنها تطرح نفسها مرجعاً أخيراً في أي قرار يتعلق بالمنطقة، فاليوم إذا أضفنا الاتصال الهاتفي بين أردوغان وترامب إلى سلسلة التحركات التركية، فسنخرج بنتيجة سبق أن اختبرناها في مواقع سابقة، وتتمثل في أن طهران هي من سيتقاضى ثمن تخلي الأميركيين عن أكراد سورية، والغريب أن ذلك يجري في سياق مواجهة كبرى بين الأميركيين والإيرانيين. أردوغان ذهب إلى سوتشي وفاوض حسن روحاني وفلاديمير بوتين على سورية كلها في مقابل ضمانات في الموضوع الكردي. وعاد إلى أنقرة وتوّج ذلك باتصالٍ مع ترامب. طهران ستأخذ في سورية وتعطي في روج آفا، وفي المقابل تولى أردوغان تأمين غطاء أميركي لهذه المبادلة في ظل انسداد قنوات التواصل بين واشنطن وطهران.
السياسة الأميركية تشتغل على خطوط منفصلة تماماً عن خطوط خطاب واشنطن. في العراق حققت طهران انتصارات ميدانية هائلة لم تكن واشنطن بعيدة عنها. خاضت طهران معركة الموصل بغطاء جوي أميركي. تم هزم «داعش» هناك، وفي هذه الحرب كان ثمة مهزومون كثر ومنتصر واحد هو طهران. صحيح أن القضاء على «داعش» كان هدف الجميع، لكن الجهة الوحيدة التي استثمرت في هذا النصر كانت طهران. وبعد ذلك جاء دور الأكراد في العراق. فما جرى أن الاستفتاء أثار في طهران حفيظة مختلفة عن تلك التي أثارها في واشنطن. الاستفتاء بالنسبة إلى طهران كان إعلان انفصال عن إقليمها العراقي، وبالنسبة إلى واشنطن كان تصديعاً لجبهة الحرب على «داعش». تم القضاء على الاستفتاء، ودفع الأكراد أثماناً باهظة عن خطأ التوقيت، منها كركوك والمناطق المتنازع عليها. طهران وحدها من تقاضى هذه الأثمان، وما فعلته واشنطن كان مجرد دفع للأكراد إلى أحضان طهران.
يبدو أن التجربة ستتكرر في سورية، أو في روج آفا تحديداً، ذاك أن شعور الأكراد هناك بسحب الغطاء الأميركي عنهم سيدفعهم إلى البحث عن بديل يقيهم وطأة الغضب والانتقام التركي. أمامهم موسكو وطهران، وإذا كانت للأخيرة حساسية حيال التعاطي مع ظاهرة انفصالية كردية تمت بعلاقة بحزب العمال الكردستاني، فإن خبراتها المستجدة على هذا الصعيد تساعدها على التخفف من أثقال الخبرة الداخلية. العلاقة مع «بي كي كي» التركي والسوري اختبرت في سورية وفي العراق أخيراً، وجرى تعميدها في الحرب على مسعود بارزاني تارة وخلال احتقان العلاقة وتنظيمها بين النظام السوري ووحدات حماية الشعب الكردي في مناطق شمال سورية.
لا ينتظم الحضور الأميركي في المنطقة مع المهمة الرئيسة التي تطرحها واشنطن على نفسها في إقليمنا. المواجهة مع طهران تحصل في ظل إفساح هائل في المجال للأخيرة لكي تتحصن بشبكة نفوذ عسكري وأمني وسياسي. اليوم ثمة حلف دولي مثلث الأضلاع يضم طهران إلى أنقرة وموسكو، فيما هي منخرطة في حلف آخر يضمها إلى موسكو مع النظام في سورية، والصين أيضاً ليست بعيدة، ناهيك عن الجماعات السياسية والأهلية التي تستمر واشنطن في قذفها إلى أحضان طهران، بدءاً من الأكراد ووصولاً إلى المسيحيين في لبنان، ومروراً بمرارات الجماعات السنية في علاقتها مع الدولة العظمى.